بحث حمد الجاسر الذي زلزل بقايا الصوفية في الحجاز :
(( الآثار الإسلامية في مكة المشرفة ))
ألقى الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - " علامة الجزيرة في التاريخ " محاضرة في (جامعة أم القرى) بمكة بعد مغرب ليلة الأربعاء 13 جمادى الآخرة سنة 1402هـ ، ثم نشرها كبحث في مجلة العرب ( س 17 ج 3-4) ؛ أحدث هزة وربكة بين أساطين التصوف في الحجاز بسبب نسفه - تاريخيًا - لكثير من خرافاتهم التي يوردونها كحقائق ليُضلوا بها البسطاء ؛ ولذا فقد حاولوا الرد عليه والتهويش ، متناسين شهادة الجميع له بالتفرد والتفوق على أبناء عصره في هذا المجال التاريخي .
وقبل أن أنشر أهم ماجاء في بحثه ؛ لابد من ذكر 3 تنبيهات :
الأول : أن الصوفية في الحجاز شرذمة قليلة حاولت خداع الناس بأنها تمثل أبناء تلك المنطقة ! مستغلة الأحداث السياسية المعروفة في بداية تشكيل المملكة . وهذا أمر مجانب للحقيقة ؛ إذ أن أهل الحجاز - وفقهم الله - هم من أهل السنة - ولله الحمد - ؛ كما يشهد بذلك تاريخهم وعلماؤهم الذين حاول دهاة التصوف إخفاء صوتهم . ومن أراد معرفة هذه الحقيقة المغيبة فليرجع إلى رسالة ( جهود بعض علماء البلد الحرام في تقرير العقيدة السلفية في القرن الرابع عشر الهجري ) للأستاذ عبدالمحسن الحربي . وأبشر الإخوة بطلائع حجازية قادمة تعيد الحق إلى نصابه ، وتسهم في كشف الحقيقة ؛ كما رأينا في رد الشريف حاتم العوني على مي يماني وغيرها من الصوفية ، وكما في ردود الشيخ الموفق سمير مالكي على قريبه محمد علوي مالكي .. وآخرين غيرهم ؛ زادهم الله توفيقًا .
الثاني : قد لايعرف كثيرون أن زناد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله قد انقدح من الحجاز ، وأن شيوخه الحجازيين ( كابن سيف ومحمد حياة السندي المدني ومحمد البرهاني وغيرهم ) هم أول من لفت نظره إلى أهمية التوحيد ، وأيدوه على دعوته إليه . ( انظر : عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية .. للشيخ صالح العبود، 1/150-169) . وأن أبرز وأكثر من عارضه هم شيوخ نجد ! . فمايسمى بالدعوة ( الوهابية ) حجازية المنشأ ؛ لا كما يحاول الصوفية ترويجه ؛ بغية صد الناس عن الحق .
الثالث : قد يقال : ألا نكتفي بالنصوص وأقوال العلماء الشرعيين في الرد على هؤلاء الصوفية ؟ فأقول : يكفي هذا مع طلاب الحق ، أما الممارون المجادلون كالمتصوفة ؛ فلا يكفيهم أن تورد عليهم الأدلة الشرعية وأقوال العلماء ؛ لأنهم سيتخلصون منها بحيل كثيرة ؛ إما بصرف المعنى ، أو بتعدد الأفهام ، أو .. الخ . أما الرد التاريخي الذي ينسف خرافاتهم من أساسها فلن يستطيعوا له دفعًا ولا تحويلا . والله الموفق .
---------------
سليمان الخراشي
****
الآثار الإسلامية في مكة المشرفة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الآثار –أيها الإخوة- في هذه البلدة المشرفة نوعان:
1 - مشاعر العبادة المقدسة، في مكة ومِنَى ومزدلفة وعرفات، ومواقيت الحج المكانية، وقد تكفل الله بصيانتها وحفظها، لارتباطها بما تعبّد عباده بالقيام به من أنواع العبادة.
2 - ونوع آخر من الآثار، له ارتباط بحياة من عاش على تراب هذه البلدة الطاهر، كالمساجد والموالد والقبور والأمكنة، وهذا ما سأحاول حصر الحديث حوله، متوخياً الإيجاز ، مشيراً إلى أمرٍ هام وثيق الصلة به، بل هو أساس يقوم عليه هذا الحديث عن هذا النوع من الآثار :
هو أن سلفنا الصالح في القرون الثلاثة المفضلة الأولى ما كانوا يهتمون بالمحافظة على آثارهم، ولا يعتنون بتحديد مواقعها أو أزمانها، بل كانوا في كثير من الأحيان عندما يخشون المبالغة في تعظيمها يسعون لإزالتها، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين رأى الناس ينتابون بالزيارة شجرة الرضوان، التي بايع المسلمون المصطفى –عليه الصلاة والسلام- تحتها، وأنزل الله في تلك البيعة قوله عز وجل: )لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة( فأمر الفاروق رضي الله عنه بقطعها.
وقد أوفى المحققون من العلماء هذا الأمر إيضاحاً وتحقيقاً، وتحسن الإشارة أيضاً إلى أن لتساهل العلماء في رواية ما يتعلق بفضائل المواضع أثراً كبيراً في حدوث كثير من الآثار، كما أن التنافس بين أهل المدن في بعض الأحيان زاد تلك الفضائل كثرة وشهرة، بوسائل مختلفة.
ولا أريد التوسع في الحديث عن هذا، وحسب القارئ أن يستعرض جوانب منه في تشابه كثير من الآثار في المدينتين الكريمتين، ككثرة المساجد المنسوبة إلى بعض المتقدمين، ونسبة كثير من القبور لبعض المشاهير في مقبرتي المعلاة والبقيع، بل حتى في الآبار، كبئر زمزم –مثلاً-.
الموالد في مكة المكرمة :
لعل أشهر هذه المواضع وأقدمها المكان الذي يرى كثير من متقدمي العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد فيه، الواقع في شعب بني هاشم بقرب سوق الليل، وهو مكان لا يزال معروفاً، مع كثرة ما طرأ عليه من التغيير، غير أن نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم محل شك لدى كثير من العلماء.
ولعل القائلين بصحة تلك النسبة اعتمدوا على القرائن في ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام من أهل مكة –لا شك في ذلك- وبنوهاشم عشيرته الأقربون كان ربعهم معروفاً في الشِّعب الذي عُرف بهم، ثم بأبي طالب أحدهم، والدار التي يقع فيها المولد كانت في ذاك الشعب، وكانت للرسول صلى الله عليه وسلم، فلما هاجر استولى عليها ابن عمه عقيل بن أبي طالب كما في الحديث الشريف: "وهل ترك لنا عقيل من دار"؟ من هنا قال بعض العلماء ومنهم ابن القيم في كتاب: "زاد المعاد": (لا خلاف في أنه r وُلد بجوف مكة).
غير أن ممن تقدم ابن القيم من العلماء من ذكر الخلاف في ذلك، فقد نقل مؤرخ مكة تقي الدين الحسني الفاسي في "شفاء الغرام" وفي مقدمة "العقد الثمين" أن مُغُلطاي العالم الحنفي المصري (689/762) وهو من حفَّاظ الحديث ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد بعُسفان.
ولمغلطاي مؤلف في السيرة في مكتبة الحرم المكي هو كتاب "الإشارة إلى سيرة المصطفى، وتاريخ من بعده من الخلفاء"(1)ورد فيه: (وُلد صلى الله عليه وسلم بمكة، في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ويقال: بالشِّعب، ويقال بالرَّدم، ويقال: بعُسفان).
وعلى القول بأنه –عليه الصلاة والسلام- وُلد في مكة، فهناك اختلاف بين العلماء في تحديد الموضع الذي وُلد فيه، فقد ذكر محمد بن محمد بن سيد الناس (734-671هـ) في كتاب "عيون الأثر في سيرة سيد البشر" ما نصه: (وولد في الدار التي تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، وقيل: إنه ولد في شعب بني هاشم) كذا أورد الخبر بصيغة: (قيل) . وقال الإمام السهيلي (581-508) في كتاب "الروض الأنف": (وولد بالشِّعب، وقيل: بالدار التي عند الصفا، وكانت بعد لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ثم بنتها زبيدة مسجدًا، حين حجَّت).
وأورد تقي الدين الفاسي هذا القول واستغربه فقال: (مولد النبي صلى الله عليه وسلم، بسوق الليل وهو مشهور، وذكر السهيلي في خبر مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ما يُستغرب) ثم أورده وأضاف: (وأغرب منه ما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم، ولد في الردم، ردم بني جمح).
ويقصد الردم الذي ردم في عهد عمر بن الخطاب t سنة 17 لصيانة المسجد الشريف من دخول السيل، موقعه في أعلى المُدَّعا الموضع الذي ذكر بعض العلماء أن المحرم يقف فيه للدعاء، إذ منه كانت تشاهد الكعبة المطهرة.
وهذا الاختلاف في الموضع الذي وُلد فيه النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على القول بأن الجزم بأنه الموضع المعروف عند عامة الناس باسم المولد لا يقوم على أساس تاريخي صحيح، وهذا أمر أوضحه الشيخ عبدالله العياشي (1090-1037هـ) في رحلته فقال ما نصه: ( وقد عُلم من كتب السير ما وقع من الاختلاف في مولده صلى الله عليه وسلم هل هو بمكة أو بالأبواء، وعلى أنه بمكة فقيل بالشِّعب وقيل المحصَّب إلى غير ذلك من الأقوال .
ولا أدري من أين أخذ الناس تعيين هذا المحل بالخصوص، اللهم إلا أن يثبت أن تلك دار والده أو جده صلى الله عليه وسلم فيترجح القول بأنه في مكة في قضية عادية، وهي أن ولادة الإنسان في الغالب في منـزل والده، وإن أُريد بالشِّعب شِعب أبي طالب الذي انحاز إليه مع بني هاشم وبني المطلب في قضية الصحيفة، فلا يبعد ذلك؛ لأن هذه الدار قريبة من الشعب من أسفله.
والعجب أنهم عيّنوا محلاً من الدار مقدار مضجع، وقالوا له: موضع ولادته صلى الله عليه وسلم !! ويبعد عندي كل البعد تعيين ذلك من طريق صحيح أو ضعيف، لما تقدم من الخلاف في كونه في مكة أو غيرها، وعلى القول بأنه فيها ففي أي شعابها ؟! وعلى القول بتعيين هذا الشعب ففي أي الدور؟! وعلى القول بتعيين الدار يبعد كل البعد تعيين الموضع من الدار، بعد مرور الأزمان والأعصار، وانقطاع الآثار.
والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعتني بحفظ الأمكنة، سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك، وبعد مجيء الإسلام فقد عُلم من حال الصحابة وتابعيهم ضَعفُ اعتنائهم بالتقييد، بالأماكن التي لم يتعلق بها عمل شرعي، لصرفهم اعتناءهم رضي الله عنهم لما هو أهم : من حفظ الشريعة، والذب عنها بالسنان واللسان، وكان ذلك هو السبب في خفاء كثير من الآثار الواقعة في الإسلام، من مساجده عليه السلام، ومواضع غزواته، ومدافن كثير من أصحابه، مع وقوع ذلك في المشاهد الجليلة، فما بالك بما وقع في الجاهلية؟! لا سيما مالا يكاد يحضره أحد إلا من وقع له، كمولد علي ، ومولد عمر، ومولد فاطمة –رضي الله عنهم جميعهم- فهذه أماكن مشهورة عند أهل مكة، فيقولون: هذا مولد فلان، هذا مولد فلان، وفي ذلك من البعد أبعد من تعيين مولده صلى الله عليه وسلم، لوقوع كثير من الآيات ليلة مولده صلى الله عليه وسلم ، فقد يتنّبه بعض الناس لذلك بسبب ما ظهر من الآيات، وإن كانوا أهل جاهلية، وأما مولد غيره ممن ولد في ذلك العصر فتكاد العادة أن تقطع بعدم معرفته، إلا أن يرد خير عن صاحب الواقعة بتنبهه أو أحد من أهل بيته ) . انتهى كلام العياشي ، وهو شامل لجميع الموالد المنسوبة لمن عاش في عهد المصطفى –عليه الصلاة والسلام- فلا داعي للحديث عنها.
المساجد:
وفي مكة مساجد، كانت تُقصد للزيارة، منها: مسجد بأعلى مكة عند الردم - المدَّعا - يدعى مسجد الراية، يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وركز رايته حين فتح مكة بقربه.
ومسجد عند المُدَّعا –أيضاً- على يمين الهابط إلى مكة ويسار الصاعد منها، ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى فيه المغرب.
ومسجد المختبا في سوق الليل بقرب ما يُزعم بأنه المولد ، يقال بأن النبيصلى الله عليه وسلمكان يختبئ فيه من الكفار.
ومسجد بأسفل مكة بقرب بركة الماجن، ينسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ،ومسجد الجن، ويسمى مسجد البيعة، ومسجد الحرس، ومسجد الإجابة في شعب بقرب ثنية أذاخر.
وهناك مساجد أخرى، وكلها وردت منسوبة له صلى الله عليه وسلم أو لأحد من أصحابه في أخبار لا تثبت أمام النقد، من حيث صحة نسبتها إلى من نسبت إليه.
وكذا المساجد المذكورة في منى، باستثناء مسجد الخيف، وهذا لا ينافي قدم تاريخ إنشاء تلك المساجد، واعتبارها من الأماكن القديمة ، فيدرس تاريخها على هذا الأساس، ويهتم بها بصفتها أماكن للعبادة.
أماكن أثرية :
ومن أشهر المواضع الأثرية جبلا حِراء وثور –من جبال أم القرى- ففي غار الأول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد، وفيه نزل عليه الوحي.
وفي غار الثاني اختبأ هو وأبو بكر حين هاجرا من مكة، وفيه نزل قوله تعالى: )إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا(.
ومن أشهر المواضع الأثرية قرب مكة وادي حُنين (يدعان) أعلى وادي الشرائع ، الذي حدثت فيه الوقعة المذكورة في القرآن الكريم: )ويوم حنين إذ أجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً( الآية. وتحسن الإشارة إلى التفريق بين موضعي حُنينٍ وأوطاس، حيث وقع من بعض المؤرخين ما يُفهم منه اعتبارهما موضعاً واحداً، مع تغايرهما ، فأوطاس يقع شرق سلسلة جبال الحجاز، أقرب المواضع المأهولة منه عُشيرة، يقع غرب وادي العقيق، على مقربة من البركة شمالها بميل نحو الغرب .
القبور:
لا شك أن مقبرة المعلاة في مكة المشرفة حوت من رفات الأجسام الطاهرة من المؤمنين ما لم تحوه مقبرة من حيث الفضل، باستثناء مقبرة البقيع.
وقد ألف الفيروز آبادي صاحب "القاموس المحيط" رسالة دعاها: "إثارة الحَجون، لزيارة الحَجون" ذكر الصحابة المدفونين في تلك المقبرة، ونظم هذه الرسالة علي بن أبي بكر الصايغ، أحد علماء مكة في صفر سنة 1287 بأرجوزة سماها: "اللؤلؤ المكنون، في ذكر أسماء أهل الحجون" وذكر أن عدد الصحابة المدفونين في مقبرة الحجون ثمانية وثلاثون رجلاً وسبع نسوة، سرد جميع أسمائهم نقلاً عن رسالة الفيروز آبادي، التي تضمنت تراجم أولئك.
ولكن مما تجب ملاحظته:
1- الاختلاف في موقع الحجون الوارد في كتب المتقدمين، فقد ذكر الفاسي أن الحجون جبل على يسار الداخل إلى مكة، ويمين الخارج منها إلى منى على ما ذكر الأزرقي والفاكهي، وهما أقدم مؤرخي مكة ممن وصلت إلينا مؤلفاتهم(2).
وإذن فهو مخالف لما عليه الناس من أن الحجون الثنية التي يهبط منها إلى مقبرة المعلاة.
وأضاف الفاسي: ولعل الحجون على مقتضى كلام الأزرقي والفاكهي والخزاعي هو الجبل الذي يقال: فيه قبر ابن عمر رضي الله عنهما أو الجبل المقابل له، الذي بينهما الشعب المعروف بشعب العفاريت انتهى.
ويرى مؤرخ مكة في عصرنا الأستاذ الشيخ أحمد السباعي أن ثنية الحجون تقع في الجبل المتصل بشعب عامر، وأن إطلاق اسم الحجون على ما هو معروف عند الناس الآن حدث بعد الإسلام(3).
2- ليس كل من مات في مكة قبر في مقبرة الحجون كما يُفهم من رسالة صاحب "القاموس" إذ لمكة عند ظهور الإسلام مقابر غير مقبرة الحجون التي هي مقبرة المعلاة ؛ منها: المقبرة العليا بين المعابدة وثنية الحرمانية –ثنية أذاخر- وكان يدفن فيها في الجاهلية وصدر الإسلام.
ومنها: مقبرة المهاجرين، بالحصحاص، بين فخّ والزاهر (الشهداء).
ومنها: مقبرة الشبيكة، وكانت تعرف بمقبرة الأحلاف، بينما تعرف مقبرة المعلاة بمقبرة المطيبين.
لهذا لا يمكن الجزم بأن من توفي في مكة مقبور بمقبرة المعلاة (الحجون)
3- نص المتقدمون من مؤرخي مكة على عدم معرفة قبر أحدٍ من الصحابة إلا قبر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في سرف.
قال الفاسي: ولا أعلم في مكة، ولا فيما قرب منها قبر أحد ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم سوى قبر ميمونة، لأن الخلف يأثره عن السلف، وقال ابن ظهيرة في "الجامع اللطيف": عن مقبرة المعلاة: لما حوته من سادات الصحابة والتابعين، وكبار العلماء والصالحين، وإن لم يعرف قبر أحد من الصحابة تحقيقاً الآن. انتهى
وفي عصرنا –بل قبله بنحو ستة قرون- عُرف قبر أم المؤمنين خديجة- رضي الله عنها ، معرفة قائمة على أساس من الجهل، إن صحَّ أن للجهل أساساً، فشُيِّدت قبة عظيمة تحمل ذلك الاسم الطاهر، ثم أقيم بجوار تلك القبة في أول القرن الحادي عشر قُبَّتان تحمل إحداهما اسم (عبد المطلب) وتعرف الأخرى باسم قبة (أبي طالب) !!
وارتباط هذه الأسماء الثلاثة بحياة المصطفى عليه الصلاة والسلام أضفى عليها هالة من الإجلال، حتى اعتقد كثير من الجهال صحة وجود قبر خديجة وقبر عبدالمطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي طالب عمه، وهو اعتقاد خاطيء كما أشرت إلى ذلك في كلمة لي بعنوان: (خرافة قبة اليهودية) (4) قلت فيها: ( من الأمور التي لا حقيقة لها ما يصبح بمرور الزمان ذا تاريخ تتناقله الأجيال، حتى يُعد بطول الزمن وبتناقل ذكره بين الناس من الأمور الثابتة التي لا يسوغ إنكارها.
فقبر أم المؤمنين خديجة –رضي الله عنها- كان مجهولاً لدى مؤرخي مكة حتى القرن الثامن الهجري ، أي طيلة سبعة قرون بل تزيد، ثم أصبح معروفاً محدد المكان، في القرون الخمسة الماضية حتى يومنا هذا، بعد أن رأى أحد العارفين في المنام(5) كأن نوراً ينبعث من شُعبة النور، في مقبرة المعلاة، ولما علم أمير مكة في ذلك العهد بخبر تلك الرؤيا أمر ببناء قبة فوق المكان الذي رأى ذلك العارف أن النور ينبعث منه، جازماً ذلك الأمير أن ذلك المكان ما هو سوى قبر خديجة رضي الله عنها(6) !!!
ويورد المرجاني في كتاب "بهجة النفوس والأسرار" الخبر باختصار ويعقب عليه: (ولا كان ينبغي تعيينه على الأمر المجهول).
ويدور الزمان فيصبح المكان وما حوله مقبرة للعظماء من أهل مكة ! ؛ فيقبر فيه في القرن الحادي عشر في سنة 1010هـ عبد المطلب بن حسن بن أبي نُمي، ثم في سنة 1012هـ يموت أحد أمراء مكة ممن عرف بالظلم والجبروت، وهو أبو طالب بن حسن بن أبي نمي، وتُبنى فوقه قبة تعرف بقبة أبي طالب، بجوار قبة خديجة الخرافية وقبة عبدالمطلب، ويدور الزمان فيُجهل أمر صاحبي القبة، فتنشأ خرافة قبة عبدالمطلب جد الرسول r الذي مات في زمن الفترة، وقبة أبي طالب بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام، الذي مات مشركاً بنص القرآن الكريم.
ويُدون التاريخ تلك الخرافات الثلاث باعتبارها حقائق تاريخية، وتتناقلها الأجيال إلى يومنا هذا، بل تزداد رسوخاً وقوة حين تصدى عالم جليل من علماء العصر(7) بكتابة سفر نفيس دعاه "في منـزل الوحي" إذ تطغى عاطفة التدين على ذلك العالم حين يشاهد مقبرة مكة (المعلاة) فتنتابه الذكريات عمن ضمَّت من أجساد عظماء الأمة خلال الثلاثة عشر قرناً وما فوقها من السنين، وتنطلي عليه خرافة قبر عبدالمطلب جد النبي عليه الصلاة والسلام، وقبر أبي طالب عمه، وقبر أم المؤمنين خديجة زوجه، فيتقبل القول على عِلاَّته، ويريح نفسه من عناء البحث والتحقيق، فيجري يراعه السيال بكتابة الصفحات التي يعدد فيها أمجاد السادة الذين ضم تراب تلك المقبرة رفاتهم !!
ويخص بالذكر منهم أولئك الثلاثة، وينحي باللائمة على من أزال تلك القباب الخرافية !!
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل إن الباحثين ممن جاؤوا بعد ذلك العالم اتخذوا كتابه مصدراً يُعتمد عليه في آثار مكة وأخبارها، بحيث أن إحدى المجلات(8) الدينية تقوم بنشر كُتيب عن الحج في كل عام منذ بضع سنوات، وتعدد فيه آثار قبور المعلاة الثلاثة القبور الخرافية !
وقل أن كتب عن هذه البلدة الكريمة أحدٌ من غير العارفين من أهلها فلم ينظر إلى هذه الآثار ونحوها نظرة الواثق بصحة ما يقال عنها، لِمُلامستها للعواطف.
أما مثقفو هذه البلاد، وأولوا الرأي فيها ؛ فهم يدركون أنها لا سند لها من التاريخ ، وأن ما يروى عنها غير صحيح(9).
حمد الجاسر
الهوامش :
1 - رقمها (87) سيرة) في 67 ورقة. مخطوطة سنة 810 مصححة ومقابلة على الأصل المقرؤ على المؤلف تنتهي بخبر قتل المستعصم سنة 656 من قبل التتار.
ولمغلطاي كتاب آخر مطول في السيرة هو "الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم" منه مخطوطة في مكتبة (ليدن) في (هولندا) رقمها في فهرس المخطوطات الشرقية (370).
2 - انظر مجلة "العرب" س 16 ص 237.
3 - محاضرة ألقاها سنة 1388هـ في نادي الوحدة الرياضي بمكة بعنوان: (عبدالله بن الزبير صاحب فكرة في تاريخ مكة) "العرب" س 2 ص 865.
4 - " العرب" س 10 ص 278.
5 - انظر كتاب "البحر العميق في العمرة والحج إلى بيت الله العتيق" لمحمد بن أحمد بن الضياء القرشي المكي الحنفي ج 1 الورقة (20) مخطوطة مكتبة الحرم المكي. رقم (40) فقه حنفي فقد أشار إلى هذا الخبر، وأورده مفصلاً أحد مؤرخي مكة المتأخرين.
6 - ذكر كثير من المؤرخين المتأخرين أن خديجة –رضي الله عنها- قبرت بمقبرة المعلاة، وذكر التجيبي في رحلته أنه شاهد (سنة 696هـ) في طرف مقبرة المعلاة شعباً ذكر أن فيه قبر خديجة وقال: (وليس لها بالشعب المذكور قبر ظاهر، ولكنهم يقولون إنها به والله أعلم) انتهى. ولهذا فإن المحققين من المؤرخين نصوا على أنه لا يعرف في مكة من قبور الصحابة سوى قبر أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، في سرف خارج مكة بقرب التنعيم، وقبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في ثنية أذاخر مما يلي باب المعلى (رحلة التجبي ص339) والله أعلم.
7 - هو الدكتور محمد حسين هيكل باشا –رحمه الله-.
8 - هي مجلة "الوعي الإسلامي" التي تصدر في الكويت.
9 - "منـزل الوحي" ص 204 و 205.