أعزائي القراء، لقد تم سحق عقيدة المدد القبورية بحمد الله على يد البلوشي من خلال هذه الكلمات النيرة التي ألقاها ليل أمس في قناة المستقلة، وهذا السبب الذي جعل جميع الوسائل الإعلامية للصوفية تصاب بالبكم والانقطاع بعد هذه الجلسة، خاصة بعد فضيحة انسحاب الكتاني الصوفي من المناظرة.
جاء في معرض حديث البلوشي في ليل أمس:
قال تعالى:
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين.
وقال تعالى
وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا
وقال تعالى
قال أتمدونن بمال
وقال تعالى
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا
لقد وجدت أن كلام القبوريين يدور على مسألتين:
المسألة الأولى أن كلمة يا رسول الله مدد أو يا رسول الله أغثني
يرى أنها من باب التوسل وليس الاستغاثة
وهم صرحوا بأن أغثني توسل وليس استغاثة مع أنها نص في الاستغاثة
والمعلوم أن الاستغاثة بالأموات وبالأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك بالاتفاق.
وأما الاستغاثة بالأموات فهي شرك أيضا.
وبما أننا نريد حوارا بالفكر فدعنا نتحدث فكريا
لو جاز أن يطلب الإنسان المدد من الميّت وقدر الميت على إمداده، فلماذا نص الحديث على الدعاء للموتى، ولم ينص حديث واحد على طلب دعاء من الموتى؟
فلو كان الأمر سواء لجاءت فيه النصوص كما جاءت في نظيره من الدعاء للموتى.
والله سبحانه وتعالى حكى عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، ولكنه لم يقل إن حياتهم مثل حياة أهل الدنيا، ولولا ذلك لما جاز الزواج بنسائهم، وهذا يدل أن قياس حياة الأنبياء على حياة الشهداء باطلة، وأبيات ابن القيم التي زورها الكتاني ولم ينقل رده عليها ليست دليلا على أن الأنبياء لا يجوز الزواج بنسائهم لأنهم أحياء، بل لأنهن بمثابة الأمهات للمسلمين، ولأنهم زوجات الرسول في الآخرة، ولأنها تكرمة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم.
هذا وإن طلب المدد من الأموات وإن كان توسلا، فهو توسل بدعاء ميت، ولم يأت نص واحد في أن الميت يدعو لمن بعده وهو في قبره، خاصة إذا كان الميت شخصا غير معصوم، لا نعلم إن كان في روضة من رياض الجنة أم في حفرة من حفر النيران. ونحن نقول بأنه لا يجوز قول: مدد للإنسان الحي فيما لا يستطيعه، فضلا عن أن يجوز قول: مدد للإنسان الميت
ولو كان طلب المدد من الأموات جائزا، وجاز أنهم يسمعون الأحياء ويدعون لهم على إطلاقه لجاز أن الموتى يستغيث بعضهم ببعض، ويطلب بعضهم المدد من بعضهم الآخر، ويغيث بعضهم بعضا.
أما استدلالهم بأن الأنبياء أحياء في قبورهم فليس ذلك دليلا على سماعهم لكل شيء، فقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن الملائكة تردّ عن الحوض أناسا يعرفهم النبي ويعرفونه ويقولون له إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك. فدل هذا على أن النبي لا يدري عن كل شيء يحصل بعده.
والضابط في حياة النبي في قبره أنها موت بالنسبة للحياة الدنيا، وحياة بالنسبة للحياة البرزخية، والحياة البرزخية يشترك فيها جميع الناس، غير أن الأموات المسلمين قد يسمعون فيها دعاء أقاربهم لهم، ويسمعون قرع نعالهم، وكذلك الأنبياء يسمع محمد صلى عليه وسلم الصلاة والسلام عليه، وهذا الدليل "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" دلائل قاطعة على انقطاع الأموات والأنبياء والشهداء وغيرهم عما في الحياة الدنيا، إلا ما نصت عليه الأدلة، وضابط ذلك قوله تعالى: "إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور"
بل إن عقيدتنا في عيسى عليه السلام، وهو لم يمت، بل رفعه الله إليه، أنه لا يعلم ولا يسمع الاستغاثة به في السماء الآن، فلو استغاث أو توسل به الآن رجل عامي، فهو لا يسمع ذلك التوسل وتلك الاستغاثة بسبب صريح ودليل واضح قاطع هو قوله تعالى:
"وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد"
فأين هذا الكلام، ممن يدعي أن موسى وعيسى ومحمد رقيبان وشهيدان الآن يسمعان دعاء المستغيثين وتوسلهم؟
بل إنهم في حياتهم لم يكونوا يدرون ما أحدث قومهم في غيابهم، بدليل قوله تعالى:
قال: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري، فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا".
وقال الهدهد لسليمان عليه السلام: "أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين".
وجاء في السنن الكبرى للبيهقي
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبى معيط إلى بنى المصطلق فعاد وقال: أرادوا قتلي، فصدقه الرسول على ذلك، دون أن يعلم حقيقة الأمر، ولذلك نزلت آية: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا".
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبى معيط إلى بنى المصطلق فعاد وقال: أرادوا قتلي، فصدقه الرسول على ذلك، دون أن يعلم حقيقة الأمر، ولذلك نزلت آية: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا".
. علما بأن إسماع من في القبور ليس كرامة على إطلاقه، بل هو قد يكون من باب التقريع كما صح سماع قتلى بدر من المشركين لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما صح سماع المؤمن والكافر قرع نعال مشيعيه عند انصرافهم عنه.
ولهذا قد يثور سؤال: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع الصلاة والسلام في قبره؟ وجاز جدلا أنه يسمع من يطلب منه المدد، فهل يستجيب لمن يطلب منه المدد؟ الجواب:
أولا: حتى لو سمع الاستغاثة به في قبره فهي استغاثة شركية لا تجوز، وثانيا: هو لن يدعو لمن يستغيث به في قبره لأنه مبتدع، ولم يتبع أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فكيف يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء من قبره لمن خالفه؟
إنه كمن نذر أن يعصي الله، فهل يعينه النبي صلى الله عليه وسلم في إتمام عبادته التي هي ذاتها معصية؟
وقد استدلوا على مدد الأموات للأحياء بقوله تعالى:
وإخوانهم يمدونهم في الغي
وهذا دليل على أن إخوان المشركين وأهل الضلال يمدونهم في الحياة في الغي
وليس دليلا على أن أهل الضلالة الأموات يمدون أهل الضلالة الأحياء في الغي
ولو صح ذلك لكان أبو جهل وفرعون يمدون المشركين الآن بالضلالة
وذلك لأن استدلال المبتدعة إنما يقوم بمجرد أن سماع الأولياء كاف عندهم
وقد ثبت سماع قتلى بدر وهم مشركون
وهؤلاء مشركون وملاحدة كأبي جهل وفرعون
وقد استدلوا بإمداد أهل الضلالة لإخوانهم في الغي
وهؤلاء أهل ضلالة، والقاعدة والحديث نص على جواز سماع أهل القبور المشركين
فهل يجوز أن نقول إنه ما دامت الآية تقول وإخوانهم يمدونهم في الغي وما دام ثبت في حديث قتلى بدر سماع الكفار والمشركين الموتى، فهل يجوز أن نقول إن فرعون وأبا جهل يمدون إخوانهم الآن؟
فإذا لم يصح إمداد الميت للحي في الغي وكان باطلا
فإن بطلانه يوجب بطلان القياس عليه، فليست الآية دليلا على إمداد الأموات للأحياء من المؤمنين في الهداية
وهذا كلام لا يكذبه إلا جاهل مكابر عنيد
ثم إن الآية قرئت بروايتين
رواية بمعنى المدّ
ورواية بمعنى الإمداد
وقرأها نافع وأبو جعفر المدني بضم الياء وكسر الميم: يُمدونهم في الغي
وقرأها حفص: يَمدونهم في الغيّ من المدّ
فعلى تفسير ضم الياء وكسر الميم هي بمعنى الإمداد وقد سبق الرد على هذا المعنى
وعلى تفسير فتح الياء وضم الميم هي من المدّ
وليس المد بالضرورة هو الإمداد
بدليل أن الله تعالى قال: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا".
فليس المد هنا بمعنى الإمداد، وإلا لكان الله تعالى مُمِدّا لأهل الضلالة في الضلالة، ومن قال هذا فقد كفر، ولكنه بمعنى الإرخاء والاستدراج.
كما أن الإمداد لا يعني بالضرورة محبة الذي يجيئه الإمداد، وليس دليلا على محبة المعطي، قال تعالى:
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا
فالإمداد هنا ليس مزية لأحد الفريقين
وقال تعالى: وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا
وهذه الآية دليل على أن المدد عطاء، والعطاء لا يكون إلا برزق من المعطي وهو الله
قال تعالى: إن الذين تدعون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق
واعبدوه واشكروا له
ومن قال إن مدد هي توسل وليس طلبا للعطاء ممن يقال له مدد فهو جاهل باللغة على الحقيقة أو معاند مكابر. لأنك تقول: مدد، وهذا مفعول به في العامية بمعنى: يا فلان أعطني مدد، فهل عندما تقول لفلان أعطني، كأن تقول: يا فلان ادع الله أن يعطيني؟ ولهذا قال القبوري إن أغثني قد تعني التوسل، مع أن أغثني هي طلب المكروب ممن يستطيع إغاثته بالمطلوب.
وهي نص صريح كاف بمصدره الصريح في معنى الاستغاثة
فنقول: استغاث استغاثة، ولا نقول استغاث توسلا
المسألة الثانية:
أن الكتاني يطلق على عبارة مدد أنها مجاز عقلي
ويضرب لذلك مثالا بقوله: بنى الملك المدينة، مجاز عقلي بمعنى أن من بناها هو أتباعه على الحقيقة، وأما نسبة البنيان إلى الملك فهي مجاز عقلي.
وهذا المثال ينقلب عليه وليس في صالحه، فمعناه أنه عندما تطلب الرزق من الله ويرزقك، فالله يرزقك بمجاز عقلي! لأنه يرزقك على يد بعض خلقه، إما بتجارة وإما بصدقة وإما بهبة وإما بعطاء وإما بميراث وإما بشيء غير ذلك.
وعلى قياس الكتاني:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك
الإنعام هنا من الله مجاز عقلي على قول الكتاني
وإنعام الرسول حقيقي
وكقوله: وارزقوهم منها واكسوهم
فالرزق من الله في قوله: يرزقكم مجاز عقلي عند الكتاني
وقوله: وارزقوهم على الحقيقة عند الكتاني
فعلى قياسه: الله يرزق عباده، هذا مجاز عقلي
لأنه استدل للمجاز العقلي في قوله مدد يا فلان، بقوله: بنى الملك المدينة.
فإذا صحت في هذا صحت هنا
أو أن يكون الاستدلال خطأ ومقلوبا.
وعلى هذا الفرض أيضا، فإن اللغة العربية تقتضي أن أقول لك أعطني ما عندك
فعندئذ يكون ما أريده عندك، أما إذا كنت أريد من غيرك أن يعطيني شيئا، أو يؤجرني مسكنا، أو يقرضني قرضا حسنا، فأنا لا أقول لك: أقرضني قرضا حسنا، بمعنى: قل لفلان أن يقرضني.
ولا أقول لك: أعطني بمعنى: قل لفلان أن يعطيني.
ومن أنكر هذا فهو مكابر للغة وعليه أن يأتي فيه بشاهد لغوي واحد صحيح من القرآن والسنة أو كلام العرب في عصر الاستشهاد
ثم إن الإمداد نوع من أنواع العطاء المباشر من القادر عليه، قال الشاعر
ابن الأشل:
يمدهمو بالماء لا لهوانهم
ولكن إذا ما ضاق أمر توسعا
فأنا عندما أطلب لك المدد لا أمدك، وإنما أطلبه لك، وليس هذا من أبواب إطلاق المجاز
لأن إطلاق المجاز في اللغة ينبغي أن يكون على ما جرت به عادة العرب في كلامها، لا على خلاف ذلك.
وفي الختام:
أرجو التنبيه إلى أن الكتاني لا يزال متمسكا بروايات ضعيفة مثل رواية أبي الجوزاء عن عائشة أنها قالت افتحوا كوى القبر حتى ينزل المطر
مع أن القبر لم تتم تغطيته إلا بعد وفاة عائشة بسنوات طويلة
فقد تمت تغطية القبر وبناء الكوى في عهد الوليد بن عبد الملك
كما بينه ابن تيمية في الرد على البكري مستدلا بحديث عائشة في الصحيحين عن وصف جغرافية الحجرات
فهذا خطأ تاريخي وحده يكفي لتكذيب الخبر، وهو ليس حديثا، بل هو خبر وفيه عدا ذلك علل عدة
وكذلك تكذيبه للدكتور جلال عندما قال: ما شاء الله وحده في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره من أصحاب السنن، وكذب الرواية واعتمد على رواية "ما شاء الله ثم شئت". مع أنها ليست حجة له في الباب
لأن احتجاجه في الباب بالمجاز العقلي يقتضي أن يقول: ما شئت. ثم يقول: مجاز عقلي بمعنى ما شاء الله لأن الشائي على الحقيقة هو الله، أما ما شاء الله ثم شئت فليس فيها ما احتج به في الباب من المجاز العقلي.
كما أرجو أن يتنبه المشاهدون إلى الرواية التي لا يزال يستدل بها أن الطبراني استغاث بقبر النبي، ودلالة الحديث محتملة لأن يكون الطبراني قد انتهر المستغيث عندما قال له: اجلس، والمحتمل لا يستدل به في مقام الاحتجاج.
هذا غير أن الرواية جاء بها الذهبي ولم يروها الطبراني، ووجدناها في تذكرة الحفاظ من غير سند وبلفظ التضعيف "رُوي".
وكذلك رواية الرجل الذي رأى في المنام أن الرسول أتاه في النوم وأقره عمر على ذلك
هذا النص، رواه البخاري في التاريخ الكبير عن علي ابن المديني ولم يأت فيه بقصة الرجل ولا استغاثته ولا المنام، بل روى فيه فقط كلام عمر ومعناه: يا رب لا آلو إلا ما عجزت .
هذا غير أن الحديث فيه الأعمش عن أبي صالح الذي ثبت عند الحاكم وغيره أنه قد دلس عنه
وفيه حكم غير واحد من أهل علم الرجال بانقطاع الحديث
هذا وفعل الرجل ليس حجة أصلا فلم يثبت أنه صحابي
هذا غير أن مالك الدار نفسه مجهول الحال وإنما وثقه ابن حبان لتساهله في توثيق مجاهيل التابعين
ووثقه ابن سعد ولا عبرة لتوثيقه له بعبارة معروف لأنه قالها في بعض الكذابين
إلى غير ذلك من النقول السريعة الخاطفة التي يلقيها كما يلقي الألغاز بسرعة حتى لا يتم تعقبها
فعليه أن يستحيي من الله قبل الناس على وجه الحقيقة لا المجاز العقلي ولا يعيد تكرار ما تم تفنيده عليه أو فليقم بالرد عليه.
http://www.benaa.com/read.asp?pid=1523758&sec=0
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق