الاستغاثة
الشيخ : عبد الله بن فيصل الأهدل
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل الكتاب ، وهزم الأحزاب .
الحمد لله الذي جعل القرآن بياناً وتبياناً لا شك فيه ولا ارتياب ، ولا إله إلا الله كلمة قامت عليها الأرض والسموات ، وابتدئت بها الرسالات ، وجردت لأجلها السيوف القاطعات .
وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين ، والمبعوث رحمة للعالمين ، جاء بالحق اليقين ، والنور المبين ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
أما بعد :
إننا في زمان تلبّس معظم أهله بالجهل ، واتبعوا صوت كل ناعق ، فعميت أبصارهم وبصائرهم عن معالم سنن الهدى ، ونطق فيهم الرويبضة ، فأفتى بغير علم فضلَّ وأضل .
وإن من أشد أنواع الجهل جهلاً أن لا يُفرّق بين الكفر والإسلام ، ولا بين المعصية والطاعة ، وأشد منه أن يُحسب الكفرُ إسلاماً والمعصية طاعةً .
وهذا مبحث مختصر يكشف زيف المارقين الجاهلين ، الداعين إلى الاستغاثة بالأموات والغائبين ، مبيناً في ذلك جهلهم ، ودافعاً إليهم شبههم ، مقرراً فيه ما دلّت عليه الأدلة وأجمع عليه أهل الملّة .
فأقول مستعيناً بالله وحده :
معنى الاستغاثة وأنواعها
الاستغاثة : مصدر الفعل اسثغاث . وهي : طلب الغوث لإزالة الشدة .
مثل الاستعانة : طلب العون .
قال تعالى : ] فاستغاثه الذي من شيعته [ .
فالاستغاثة إذاً من جنس الدعـــاء ، إلا أن الدعاء أعم فيكون لإزالة الشدة – وهو الاستغـاثة - ، أو لجلب الخير - فيكون إستعانة - .
وقال بعضهم : [ الاستغاثة هي الإعانة ] .
وعلى أية حال فهي لا تخرج عن الدعاء ، كما قال تعالى :
] إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [ .
ومعلوم يقيناً وقطعاً أن الدعاء منه ما هو عبادة ، ومنه ما ليس كذلك ، فأما الذي هو عبادة فلا يجوز صرفه لغير الله تعالى ، لأن من صرف شيئاً من العبادات الشرعية صغرت أم كبرت لغير الله تعالى صار كافراً مرتداً بإجماع أهل الإسلام، ومما يدل على ذلك :
قول الله تعالى :] ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [ .
وقوله تعالى : ] وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً [ .
وقوله تعالى ] ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين [ .
وقوله تعالى : ] ومن أضل ممن يدع من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون [ .
وقوله تعالى : ] له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى المـاء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال [ .
وقوله تعالى : ] والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ، إن تدعوهم لا يسمعــوا دعاءكم ولو سمعــوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم [ .
وغيرها من الآيات الكثيرة الدالة على هذا المعنى .
ومن الأحاديث : قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري (( من مات وهو يدع من دون الله ندّاً دخل النار )).
وقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد والترمذي (( الدعاء هو العبادة )) . ومما يدل على أن الدعاء هو العبادة من القرآن :
قوله تعالى ] وقال ربكم أدعوني أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [ .
وقوله ] وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً ، فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب [ .
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين (( ينـزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ثم يقول : من يدعوني فأستجب له ؟ ... )) الحديث .
وعند أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وصححه (( من لم يدع الله يغضب عليه )) .
والصنف الثاني من الدعاء ؛ الذي هو ليس بعبادة ، فهذا ليس بشرك ولا كفر . ومن ذلك :
استغاثة ذلك الرجل بموسى عليه السلام في قوله تعالى : ] فاستغاثه الذي من شيعته [ .
ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- (( من دعاكم فأجيبوه )) .
ومثله في النصرة ] وإن استنصروكم فعليكم النصر [ .
ومثله في الإعانة ] فتعاونوا على البر والتقوى [ .
وفي الحديث (( والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )) .
بيان حكم الاستغاثة
من خلال ما قدمنا يقوم الجواب عن سبب كتابة هذه الأسطر وهو :
حكم الاستغاثة بالأموات والغائبين ، بل والحاضرين فيما لا يقدر عليه إلا الله .
فهل هذه الاستغاثة من النوع الأول فتكون شركاً مخرجاً من الملة ؟
أم من النوع الثاني فلا تكون شركاً ؟
وللإجابة عن ذلك :
ينبغي أولاً معرفة حال المشركين ، الذين كفّرهم القرآن ، لصرفهم الدعاء لغيره تعالى الذي مر في الآيات السابقة .
فالمشركون هؤلاء لم يكونوا يجحدون وجود الله بل كانوا يقرّون ويعترفون أن الله سبحانه وتعالى خالقهم ومدبّر شأنهم ومالك أمرهم وأنه المحيي والمميت وأنه رب السموات والأرض ؛
قال تعالى ] ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ .
وقال تعالى ] ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [ .
وقال تعالى ] قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار والأفئدة ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبّر الأمر فسيقولون الله ، فقل ألا تتقون [ .
وقال تعالى ] قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون ، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون [ .
وقال تعالى ] قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تصرفون [ .
ومع كل ذلك كفّرهم القرآن ، ووصفهم بالشرك ، ومما كفّرهم به أنهم جعلوا لهم وسائط بينهم وبين ربهم ، يتوجهون إليها ويدعونهم ويستغيثون بهم ؛
قال تعالى ] ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [ .
وقال تعالى ] والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ . وقد قدمنا أن الدعاء هو العبادة .
وهؤلاء المدعوون من الأصنام كان منهم رجال صالحون ، كما جـاء في صحيح البخاري من قول ابن عباس عن ؛ ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، أنهم رجال صالحون عُبدوا بعد موتهم .
ومنهم أنبياء وملائكة وغير ذلك اتخذوهم وسطاء وشفعاء عند الله ، يرفعون إليهم حاجاتهم ، ويستغيثون بهم ، حيث جعلوا الله كملوك الأرض يحتاجون إلى وسطاء في رفع الحوائج .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه < الواسطة بين الحق والخلق ص 18 > : [ ومن أثبتهم ( أي الأنبياء والصالحين ) وسائط بين الله وخلقه كالحجّاب بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه ، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم ، فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله ، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم ، والناس يسألون أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك ، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك ، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج ، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك ، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، وهؤلاء مشبهون لله شبّهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أنداداً ] .
وكان هؤلاء المشركون يعتقدون في عبادتهم لتلك الأصنام أنها قربة إلى الله .
قال الإمام البكري الشافعي عند قوله ] من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار والأفئدة ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [ الآية : [ فإن قلتَ : إذا أقرّوا فكيف عبدوا الأصنام ؟ قلتُ : كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله ( وهكذا ما يفعله عباد القبور ) والتقرّب إليه ولكن بطرق مختلفة ، ففرقة قالت : ليس لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته ، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى . وفرقة قالت : الملائكة ذو جاه ومنزلة عند الله تعالى ، فاتخذنا لنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى . وفرقة قالت : جعلنا الأصنام لنا قبلة في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته . وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله ( وهذا ما يعتقده أيضاً كثير من عبدة القبور أن للولي الفلاني نفر من الجن مسخّر له بزعمهم ) فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان بأمر حوائجه ، وإلا أصابه شيطانه بنكبة بإذن الله ] .
وقال شيخ الإسلام في الرسالة السنية : [ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام ، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق ، أو تنـزل المطر ، أو تنبت النبات ، وإن كانوا يعبدونهم ويعبدون قبورهم أو صورهم ، ويقولون : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى . ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . فبعث الله رسله تنهي أن يدعى أحد من دونه ، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثــة ، وقال : ] قل ادع الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشـف الضـر عنكم ولا تحويلاً ، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب [ ] < راجع كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان لمحمد بشير السهسواني > .
وبعد كل ما تقدم نقول :
هل ما يفعله المستغيثون بالأموات ونحوهم من الأنبياء والصالحين يشابه ما يفعله المشركون أم لا ؟
الجواب :
الحق الذي لا مرية فيه أن هؤلاء قد صنعوا عين ما فعله المشركون بل زادوا عليه .
وإليك برهان ذلك :
أولاً : إنهم جعلوا من يستغيثون بهم وسائط بينهم وبين الله ، فشبهوا الله بملوك الأرض ، وهذا التشبيه شرك صراح تنـزه الله عنه ، قال تعالى ] ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ .
يقول أحد أقطابهم معترفاً بهذه الوسائط بأنه [ لا يوجد أحد يعبد نبياً أو ولياً ، وإنما غاية ما يفعله الناس أن يجعلونهم وسائط بينهم وبين خالقهم ] .
وهذا الجاهل المصرّح بذلك لا يعرف معنى العبادة ، إذ العبادة عنده صلاة وصوم ونحوها ، لذلك كان أجهل من المشركين بمعنى العبادة .
فالمشركون كانوا يعرفون أن العبادة تشمل الصلاة والزكاة والصيام والحج والنذر والذبح والدعاء والاستغاثة والاستعانة واتخاذ الوسائط قربى ، فلذا قالوا وهم عالمون بذلك : ] ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ .
أما هؤلاء فلجهلهم بمعنى العبادة وحقيقتها - حيث اقتصر مفهومها على الشعائر ونحوها - وقعوا في الشرك والكفر بصرفهم بعض العبادة لغير الله .
قال الإمام الصنعاني في كتابه < تطهير الاعتقاد ص 51 > رداً على قولهم : [ نحن لا نعبـد هؤلاء ولا نعبد إلا الله وحده ولا نصلي ولا نصوم ولا نحج لغيره ، قلتُ : هذا جهل بمعنى العبادة ، فإنها ليســت منحصرة فيما ذكرنا ، بل رأسها وأساسها الاعتقاد ، وقد حصل في قلوبهم ذلك بل يسمونه معتقداً ، ويصفـون له ما سمعت مما يتفرّع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم والتوسل بهم و الاستغاثة والاستعانة والحلف والنذر وغير ذلك ] إلى أن قال [ ومن تكلم بكلمة الكفر صار كافراً فكيف بمن بلغ هذه المرتبة اعتقاداً وقولاً وفعلاً ] .
وقال أيضاً < صفحة 4.-41 > في ردّه على مثل قولهم : نحن لا نشرك بالله شيئاً ولا نجعل لله نداً وإن الالتجاء إلى الأولياء ليس شركاً . قال الصنعاني : [ نعم يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم ، ولكن هذا جهل بمعنى الشـرك ، فإن تعظيم الأولياء ونحرهم النحائر شرك والله يقول ] فصل لربك وانحر [ أي لا لغيره كما يفيده تقديم الظرف ، ويقول تعالى ] وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً [ ] .
ثانياً : إنهم اعتقدوا فيمن يستغيثون به ما يعتقدون في الله تعالى ، فإنهم جعلوا لهم سمعاً مطلقاً وعلماً مطلقـاً ، فتراهم يدعونهم ربما على بعد آلاف الأميال ، فذاك في مصر يستغيث بمن في العراق ، وذاك في اليمن يستغيث بمن في الهند ، اعتقاداً منه أنه يعلم بحاله ويسمع ندائه ودعائه ، وقادر على تحقيق طلبه من جلب خير أو دفع ضر وأنه حاضر وقت الطلب ، فتسمع : يا محضار احضر ، وغير ذلك .
[ ومن المواقف العديدة المعاصرة في ذلك أنه قد زعم الخليفة الحالي للسيد البدوي في مولد عام 1991م ( أن السيد البدوي معك أينما كنت ولو استعنت به في شدتك وقلت : يا بدوي مدد ، لأعانك وأغاثك ) قال ذلك أمام الجموع المحتشدة بسرادق وزارة الأوقاف بالقاهرة أمام العلماء والوزراء وقد تناقلته الإذاعات وشاشات التلفاز ] < مجلة البيان العدد 132 ص42 > .
ثالثاً : إنهم أعظم من الأوائل شركاً . فإن الأوائل يدعون معبوداتهم في الرخاء ، فإذا حلّت بهم النازلة وأشرفوا على المهالك ، تركوا أصنامهم وهرعوا إلى ربهم مخلصين له .
قال الله تعالى ] وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون من دون الله ، فلما نجّاهم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً [ .
وقال ] وإذا مسّ الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ، ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل .. [ .
وقال ] وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين [ .
وهذا بخلاف ما يفعله المستغيثون بالأموات والغائبين ، فإنهم إذا دهمتهم الشدائد ، وحلت بهم المهالك ، اشتدت اسغاثتهم بهم وكثرت النذور ، وهذا أمر يعرفه كل من خالطهم أو سار معهم ، وتراهم فوق ذلك يطوفون حول قبورهم ومشاهدتهم ويشرعون لها المناسك ، وهذا موجود عندنا في حضرموت كزيارة نبي الله هود المزعومة ، والحول السنوي عند قبر علي بن محمد الحبشي وغيرها ، وربما قال بعضهم للقادم من هناك ( حج مقبول أو مبرور ) ونحوها من العبارات .
[ وعلى ذلك فليس بمستغرب أن يقول السخاوي : جاء الحجّاج هذه السنة لسيد أحمد بدوي من الشام وحلب ومكة أكثر من حجاج الحرمين ] < مجلة البيان العدد 132 > .
وربما تقربوا بالنذور إليهم بما لا يتقربون به إلى الله ؛
يقول الشوكاني في الدر النضيد : [ وأما التقرّب إلى الأموات ، فانظر ما يجعلونه من النذور لهم على قبورهم في كثير من المحلات ، ولو طلب الواحد منهم ليسمح بجزء من ذلك لله تعالى لم يفعل ، وهذا معلوم يعرفه من عرف حال هؤلاء ] < راجع صيانة الإنسان ص 161 > .
[ ومن ذلك أن أبا المواهب الشاذلي يقول : ( رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي إذا كانت لك حاجة وأردت قضاءها فانذر لنفيسـة الطاهرة ولو فلساً فإن حاجتك تُقضى ) < طبقات الشعراني 2/74 > فهذا الحلم الشيطاني دعوة صريحة للشرك بالله ونقض التوحيد ] < البيان العدد 131 ص 55 > .
رابعاً : إنهم يطلبون ممن يستغيثـون بهم من الأموات والغائبين ، أموراً لا يقدر على تحقيقها نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا أحد من الخلق أبداً ، وينادونهم بالألفاظ التي لا تليق إلا بالله تعالى ، مما يدل على أنهم يعتقدون فيهم كمال التصرّف في الكون ، وأنهم قادرون على ما لا يقدر عليه البشر من جلب الرزق والشفـاء والولــد والنصر على الأعداء واعتقاد الضر والنفع ، بل ربما رأوا أنهم إن دعوا الله لم يستجب لهم ، وإن دعوا غيره من أوليائهم استجاب لهم وسارع في تحقيق مطلبهم ، بل تفضّل عليهم بأكثر مما طلبوا .
[ وقد أورد أبو بكر العراقـي عن بعض القبوريـين وهو إمام وخطيب في أحد مساجد ديالي المهمة يقول : ( دعوت الله ست سنوات أن يرزقني الولد فلم أرزق ، وذهبت إلى شيخــي مصطفى النقشبندي – أربيل – فما أن استغثت به وطلبت منه الولد حتى رزقت بطفلين توأمين ) .
تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
وهذا النموذج الصارخ يحوي على جميع أنواع الشرك ؛ ربوبية وألوهية وأسماء وصفات ] < مجلة البيان العدد 132 ص 56 > .
وقد صرّح أحد كبار التنظير القبوري وهو أحمد بن محمد بن صديق الغماري بوجود الشرك الأكبر الصراح في القبورية ، قال : [ .. وإن عندنا في المغرب من يقول في ابن مشيش إنه خلق الابن والدنيا ، ومنهم من قال والمطر نازل بشدة : يامولانا عبد السلام الطف بعبادك !! فهذا كفر ] < البيان العدد 132 ص 63 > .
يقول محمد بن علي خرد : ثلاثة لا تزال خيل ساحتهم مسرجة ملجمة لمن دعاهم أو استغاث بهم ( عمر المحضار ، وعلوي بن محمد بن الفقيه المقدم ، وابنه علي بن علوي خالع قسم ) . فنظمهم بقوله :
إذا خفت أمراً أو توقعت شدة فنوه بهم أن يدركوك ويحضروا
فنوه بعلوي الفتى وابنه علي كذا عمر فيما يحل ويعسر
فغارتهم تنجيك من كل شدة وعسر وضيق أو بصدرك يكبر
< راجع المشرع الروي ص 2.1 >
وتراهم أيضاً يطلبون منهم العفو ومغفرة الذنوب وإجابة الدعوة ويرجونهم .
يقول البرعي في استغاثته برسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
أرجوك في سكرات الموت تشهدني كي ما يهون إذ الأنفاس في صعد
وإن نزلت ضريحاً لا أنيــس به فكن أنيس وحيد فيه منفــرد
وارحـم مؤلفها عبد الرحيم ومن يليه من أجله وانعشه وافتقــد
وإن دعا فأجبه واحـمِ جانبــه من حاسد شامت أو ظالم نكـد
وقال بعضهم في استغاثته بميت :
وامنن علي بتوفيق وعافيـــة وخير خاتمة مهما انقضى عمري
وكفَّ عنا أكف الظالمين إذا أشـ ـتدت بسوء لأمر مؤلم نكـرِ
فإنني عبدك الراجي بودك مــا أمّلته يا صفي السادة الغــررِ
قال بعض العلماء : [ فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنـزلة ، وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه ، فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون من عبدوه لشيء من هذا ] < راجع تيسير العزيز الحميد ص142-143 > .
فهذا الغلو في الأموات بلغ بهم أن صيّروهم أصناماً ، قال ابن كثير في البداية والنهاية عن موت السيدة نفيسة سنة 2.8هـ وتعظيم المصريين لها ولقبرها : [ وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها ] وقال الذهبي في ترجمة السيدة نفيسة في < السير 1./1.6 > : [ ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف ولا يـجوز مما فيه من الشرك ، ويسجدون لها ويلتمسون منها المغفرة وكان ذلك من دسائس دعاة العبيدية ] .
وبعد هذا كله ؛ لا يستريب لبيب ، ولا يشك كل من له أدنى مسكة عقل ، في أن هؤلاء قد ارتكبوا الكفر البواح ، والشرك الصـراح الذي لا تأويل معه ، فإن لم يكن ما فعلوه كفراً وشركاً فليس في الدنيا بعده كفر ولا شرك .
الرد على الشبه
بقي هناك أبواب الشيطان ( باب الشبه ) يدلج منه هؤلاء ويلبسون على الناس ، فيظهرون الباطل بلباس الحق ، يخدعون به من لا علم عنده .
ومعلوم أن باب الشبه باب واسع كلما أُغلق منه باب فتح لهم الشيطان أبواباً ، ولذا جعلت ما قدمته أصلاً عاماً يُرد به عليهم في هذا الباب .
وسأورد مجمل الشبه التي يتشبث بها هؤلاء القبوريون وأرد عليها بما يتناسب مع المقام :
( 1 ) قولهم : [ إن الأولياء والصالحين الذين نستغيث بهم لا نعتقد فيهم ضرّاً ولا نفعاً ، بل الضر والنفع لله وحده ] .
الجواب عن ذلك : إن مجرّد اعتقاد الضر والنفع لله وحده لا يكفي لجعل المرء مسلماً موحداً ، فكفاّر قريش كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد أن النافع والضار هو الله فلما صرفوا الدعاء لغير الله شرّكهم الله . ولو أن رجلاً سبَّ الله أو رسوله أو دين الإسلام أو حلّل ما أجمعت الأمة على تحريمه كَفَرَ إجماعاً ، ولو ادعـى وقال : أنا أعتقد الضر والنفع لله وحده . لم يكن ذلك مانعاً من تكفيره واستحلال دمـه ومالـه . وكذا شأن من صرف شيئاً من أنواع العبادات لغيره تعالى ، وجعل مع الله واسطة يتقـرب بها إلى الله ، كما مر بيانه وسيأتي نقل الإجماع على ذلك .
أضف إلى ذلك أن من هؤلاء القبوريين من صرّح بأن هؤلاء المدعوّين يملكون التصرّف في الكون وقضاء الحاجات ، وهذا داخل في باب الضر والنفع ، وقد مر بك بعض أقوالهم .
وقال الآلوسي في < روح المعاني م2ج3ص129 > : [ ولا أرى أحداً ممن يقول ذلك ( يعني أغثني يا فلان ) إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب و يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ورفع الأذى ، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ، فالحزم التجنب من ذلك إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد ] .
( 2 ) ومن شبههم أيضاً قولهم : [ إن الاستغاثة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد ثبتت بالأدلة الصحيحة ، منها ما رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : ادع الله أن يعافيني . قال : (( إن شئت دعوت لك وإن شئت أخرت ذلك وهو خير لك )) فقال : ادعه . فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء (( اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي ، اللهم فشفعه في وشفعني فيه )) ففعل الرجل فبرأ . وبحديث فتح الكوّة وقد رواه الدارمي ، وملخصه : أن الناس شكوا إلى عائشة القحط فأشار إليهم أن يفتحوا كوّة إلى السماء من فوق قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- . ففعلوا . فأمطروا حتى نبتت العشب وسمنت الإبل . وغيرها من الأحاديث القريبة مما ذكرنا ] .
الجواب : إن حديث الضرير المذكور بهذا اللفظ صحيح الإسناد ، ولكنه لا يصلح دليلاً ولا شاهداً على مشروعية الاستغاثة بالأموات والغائبين ، لأن فيه توسلاً بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حاضر ، والكلام إنما في جواز الاستغاثة بالأموات والغائبين ، والأحياء فيما لا يقدرون عليه .
ففرق بين التوسل والاستغاثة في اللفظ والمعنى ، فالتوســـل إنما فيه طلب الدعاء من المتوسل به ، وأما الاستغاثة ففيها طلب قضاء الحاجة من المستغاث به ، فالأولى سؤال الله أما الثانية سؤال غير الله .
وبمثل هذا الكلام يُرد على ما يورده هؤلاء من أدلة التوسل على مشروعية الاستغاثة . وهذا إما جهل منهم أو تعصب .
وأما حديث فتح الكوّة فإسناده ضعيف . فيه سعيد بن زيد ، ضعفه الذهبي في الميزان ، وقال الحافظ في التقريب : صدوق له أوهام . وفيه عمر بن مالك المنكري ، قال في التقريب : صدوق له أوهام .
وقال شيخ الإسلام في رده على البكري [ إنه ليس بصحيح ولا يثبت إسناده ] .
ولو صح هذا الأثر فليس فيه استغاثة ، غاية ما فعلوه فتح الكوّة من قبره إلى السماء فأمطروا ، ففيه تبرّك لا طلب غوث منه -صلى الله عليه وسلم- .
( 3 ) ومما تمسكوا به قولهم : [ قد ثبتت استغاثة العباد يوم القيامة بالأنبياء حتى انتهوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ] .
الجواب : إن الاستدلال بحديث الشفاعة يوم القيامة ، ليس فيه طلب غوث من ميت ، بل المطالبون بالشفاعة في ذلك اليوم أحياء . ومع ذلك فالشفاعة في ذلك اليوم لا تكون منه -صلى الله عليه وسلم- مباشرة ، بل بعد إذن الله ورضاه ، فيسجد ويقال له : ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع . فالناس في ذلك اليوم إنما طلبوا الدعاء منه -صلى الله عليه وسلم- وجميعهم أحياء ، والكلام هنا إنما هو عن الاستغاثة بالأموات والغائبين وطلب أن يقضوا حاجاتهم بأنفسهم لا أن يدعوا الله لهم .
( 4 )ومما تمسكوا به : [ حديث (( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور )) ] .
الجواب : إن هذا الحديث المزعوم كذب واختلاق .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في< القاعدة ص 157 > : [ فهذا الحديث مفترى على النبي -صلى الله عليه وسلم- بإجماع العارفين بحديثه ، لم يروه أحد من العلماء بذلك ، ولا يوجد في شيء من الكتب المعتمدة ] .
وقال صاحب < تيسير العزيز الحميد ص 249 > : [ وقولهم ( لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه ) قال ابن القيم : وهو من وضع المشركين عباد الأوثان ] .
( 5 ) ويحتجون أيضاً بما [ رواه ابن أبي يعلى عن ابن مسعود مرفوعاً : (( إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلات فلينـاد : يا عباد الله احبسوا علي ،يا عباد الله احبسوا علي ، يا عباد الله احبسوا علي ، فإن لله حاضراً سيحبسه عليكم )) قالوا : وقد جرّب ذلك فنفع . وفي حديث ثان (( إذا ضل أحدكم شيئاً وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل : يا عباد الله أغيثوني ، يا عباد الله أغيثوني ، فإن لله عباداً لا نراهم )) وثالث عن ابن عباس (( إن لله ملائكة سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر ، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلات ، فليناد : يا عباد الله أعينوني )) ] .
والجواب : أما الحديثان الأولان فضعيفان . فالأول مداره على معروف بن حسان وهو منكر الحديث قاله ابن عدي فيما نقله عن الذهبي< تيسير العزيز ص 247 > ، كما أن في سنده انقطاع بين أبي بريدة وابن مسعود كما قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه ابن علان في شرحه للأذكار : [ وللحديث طريق معضل أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن محمد بن اسحاق عن أبان بن صالح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال : .. فذكر نحوه ، وهذا مع إعضاله فيه عنعنة ابن اسحاق ] .
وأما الحديث الثاني فقد رواه الطبراني في الكبير وسنده ضعيف . ففيه عبد الرحمن بن شريك وهو ابن عبد الله القاضي كلاهما ضعيف . فالابن قال عنه الحافظ : صدوق يخطئ ، وقال في أبيه : صدوق يخطئ كثيراً تغيّر حفظه منذ ولي القضاء في الكوفة ، وقال الهيثمي عن هذا السند [ رواه الطبراني ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم ] . كما أن فيه انقطاعاً بين عتبة وابن علي ، كما قال الحافظ في تخــريج الأذكار : [ أخرجه الطبراني بسند منقطع ] .
وأما الأثر الثالث عن ابن عباس فاختلف في رفعه ووقفه ، فقد جاء من طريقين الأولى عند البزار مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، والثانية عند البيهقي في الشعب موقوفاً على ابن عباس ، وإسناد الطريقين حسنإلا أن جعفر ابن عون وهو في سند البيهقي أوثق من حاتم بن إسماعيل في سند البزار ، فإنهما وإن كانا من رجال الشيخين ، فالأول لم يجرح بشيء ، بخلاف الآخر فقد قال فيه النسائي ليس بالقوي ، وقال غيره كانت فيه غفلة ، ولذلك قال فيه الحافظ صحيح الكتاب صدوق يهم ، وقال في جعفر صدوق ، ولذلك فالحديث معلول بالمخالفة والأرجح أنه موقوف . < راجع السلسلة الضعيفة للمحدث الألباني برقم 655-656 > .
وذكر بعضهم في هذه الأحاديث علل غير ما ذكرنا . < راجع هذه مفاهيمنا ص 48-53 > .
ثم لو جاز أن تكون هذه الأحاديث صحيحة الإسناد كسلسلة الذهب ومرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان فيها دليلاً على جواز الاستغاثة الشركية .
ففي الحديث الأول قال (( فإن في الأرض حاضراً )) فليس إذاً بغائب أو ميت .
وفي الحديث الثاني قال (( فإن لله عباد لا نراهم )) وهذا ينطبق على الملائكة الذين جاء ذكرهم في رواية ابن عباس (( إن لله تعالى ملائكة في الأرض )) وقد نقل عن أحمد أنه يعمل بذلك .
فلا حجة إذاً فيما استدلوا به ، فحينئذ هو من الاستعانة الجائزة لأنها معروفة الأسباب وفيما يقدرون عليه .
وأما قولهم ( فقد جرّب فنفع ) فالجواب ما ذكره الإمام الشوكاني في تحفة الذاكرين بمثل هذه المناسبة : [ فأقول إن السنة لا تثبت بمجرد التجربة ، ولا يخرج الفاعل للشيء معتقداً أنه سنة عن كونه مبتدعاً ] < نقلاً من السلسلة الضعيفة رقم 655 > .
( 6 ) واحتجوا بما [ رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة عن ابن عمر y أنه خدرت رجله ، فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك . فقال : يا محمد . فكأنما نشط من عقال] .
الجواب : هذا الأثر موقوف على ابن عمر ، وهو ضعيف ، ففيه محمد بن مصعب ، قال فيه ابن معين كان مغفلاً ، وقال النسائي وأبو حاتم إنه ضعيف ، وقال الخطيب عنه إنه كثير الغلط لتحديثه من حفظه . ولا ينفعه توثيق ابن قانع فهو من المتساهلين . وأما قول أحمد فيه ليس به بأس ، يعني أنه صدوق في نفسه ولكنه ضعيف الحديث . وفيه الهيثم بن حنش مجهول العين قاله الخطيب في الكفاية في علوم الراية . وفيه أبو إسحاق السبيعي وهو مدلس وقد عنعن في روايته عن هذا المجهول . ثم إن أبا إسحاق قد اختلط فمرة رواه عن أبي شعبة ( أو أبي سعيد ) وتارة عن عبد الرحمن بن سعد ، وهذا اضطراب يرد به الحديث .
وجاء أيضاً عن ابن السني عن ابن عباس y أن رجلاً خدرت رجله عنده فقال له : اذكر أحب الناس إليك . فقال: محمد -صلى الله عليه وسلم- . وهذا الأثر في إسناده غياث بن إبراهيم كذبه ابن معين .
وأمثل ماروي في هذا الباب وأصحه على تدليس أبي إسحاق ما رواه البخاري في الأدب المفرد : خدرت رجل ابن عمر . فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك . فقال : محمد . وهذا الأثر يختلف عن الأول ففيه ( محمد ) بدون نداء ، وهذه الرواية عن سفيان وهو من الحفاظ الأثبات ، فنقله خبر أبي إسحاق بهذا اللفظ يدل على أنه هو المحفوظ وسواه غلط مردود .
ولا يجوز الاستدلال بمثل ما ذكرنا على جواز الاستغاثة الشركية بالأموات وغيرهم ، فغاية ما فيه ذكر المحبوب لا طلب حاجة منه ، ولا أن يكون واسطة بينه وبين ربه .
ثم ماذا نقول في الكافر إذا ذكر حبيبه فزال خدر رجله ؟!
فإن هذا العلاج كان معروفاً عند الجاهليين قبل الإسلام ، جرّب فنفع ، وليس فيه إلا ذكر المحبوب ، وقيل في تفسير ذلك إن ذكره لمحبوبهيجعل الحرارة تتحرك في بدنه فيجري الدم في عروقه فتتحرك أعصاب رجله فيذهب الخدر .
وقد جاءت الأشعار في هذا كثيراً في الجاهلية والإسلام ، فمنها قول الشاعر :
صبٌّ محبُّ إذا ما رجله خدرت نادى كبيشة حتى يذهب الخدر
وقول جميل بثينة :
وأنتِ لعيني قرة حين نلتقي وذكرك يشفيني إذا خدرت رجلي
وقال الموصلي :
والله ما خدرت رجلي وما عثرت إلا ذكرتك حتى يذهب الخدر
وغيرها من الأبيات في هذا المعنى ، أفيقال أن هؤلاء العشاق استغاثوا بمعشوقاتهم فتقبل الله وساطتهم فذهب خدر أرجلهم . لا عجب أن يجيب القبـــوريون بـ : نعم . فإنهم يستغيثون بمن علم صلاحه أو لم يعلم ، بل ربما استغاثوا بمن عرف عنه الفسـاد ، بل صدر منه الكفر البواح الذي لا تأويل معه . < نقلاً عن هذه مفاهيمنا ص 43-47 بتصرف > .
(7) ومن شبههم أيضاً قولهم : إن الحي ينتفع بالميت ، ودليل ذلك :
أ-مراجعة موسى عليه السلام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج في أمر الصــلاة وتخفيفها ، فلو كان الحي لا ينتفع بالميت لما استطاع موسى مراجعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتخفيف الصلاة .
والجواب على ذلك : أن حادثة المعراج آية خارقة فلا يقاس عليها أبداً ، ثم إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخاطب موسى وهو يراه حاضراً عنده وفي أمر يقدر عليه ، وإنما كلامنا هنا عن الاستغاثة بالغائب والميت ، وموسى وإن كان ميتاً لكنه في حياة برزخية ، وقد ارتقى إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان الجميع في عالم واحد ، ثم أن موسى إنما كانت منه المراجعة فقط ، وأين هذا مما يطلبه القبوريون ويفعلونه عند القبور من طلب الشفاء والولد من المقبور ، أضف إلى ذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يطلب من موسى شيئاً بل كان موسى هو الذي أشار عليه بأن يرجع إلى ربه فيسأله التخفيف فإن هذا من سؤال المخلوق فيما يقدر عليه .
ب-ومن ذلك قولهم : إن مما يدل على أن الحي ينتفع بالميت ما قصّه الله في سورة الكهف في قصة موسى والخضر والغلامين اللذين حفظ الله مالهما بسبب صلاح الأب والأب قد مات بل قيل أنه الأب السابع ، فلوكان الحي لا ينتفع بالميت لما نفع صلاح الأب بعد موت .
والجواب عن ذلك :
أولاً : إن كلامنا هنا عن الاستغاثة بالميت وطلب الغوث منه ،وهو هنا منعدم ، فلا دلالة في ذلك على جوازها .
ثانياً : كون الحي انتفع بصلاح الميت لا يعني جواز الاستغاثة به ، فالله سبحانه قد جعل صلاح الوالد سبباً في رزق الذرية من غير أن تسأل تلك الذرية ذلك الوالد في قبره ، قال تعالى ] وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقلوا قولاً سديداً [ وهذا أمر كوني قدره الله تعالى لا أمر شرعياً ، فقد قدر الله ذلك في كتابه فلا معنى في سؤال الآباء ذلك . وما جاء في قصة الغلامين فهو عين ما قررناه ، فقد حفظ الله مالهما بسبب صلاح الأب من غير أن يطلبا ذلك منه ، فكيف يتمسك بمثل ذلك على جواز الاستغاثة بالأموات .
ت-ومن ذلك قولهم : إن مما يدل على أن الحي ينتفع بالميت أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ كما روى ذلك أبو داود الطيالسي قال : حدثنا الصلت بن دينار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال -صلى الله عليه وسلم-(( إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم فإن كان خيراً استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك )) وبما رواه أحمد عن عبد الرزاق عن سفيان عمن سمع أنسا يقول قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (( إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا )) .
والجواب عن ذلك :
أولاً : إن هذه الأحاديث وغيرها مما جاء في معناها لو صحت فإنما فيها عرض الأعمال والدعـــاء من الأموات للأحياء وكلامنا إنما هو في طلب الغوث من الأموات فهي عكس ما دلّت عليه الآثار ، وليس في هذه الأحاديث ما يدل على ذلك فلا يصلح التمسك بها في هذا الموضوع .
ثانيا : أن فيها دعاء الأموات للأحياء من غير طلب منهم فلا معنى إذا في طلب الدعاء منهم باعتبار ذلك أمراً كونياً وقد تقدم نحو هذا الكلام .
ثالثاً : كون الأموات يدعون للأحياء فلا يعني ذلك طلب الغوث منهم فقد جاء أن الملائكة يدعون للمؤمنين ويستغفرون لهم قال تعالى ] والذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا [ ومع ذلك لم تشرع الاستغاثة بهم قال تعالى ] قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً [ . قالت طائفة من السلف منهم كان أقوام يدعون الملائكة وغيرهم فنهى الله عباده عن دعائهم . قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
[ إذا لم يشرع دعاء الملائكة لم يشرع دعاء الأموات ] < مجموع الفتاوى ج 1/16 > .
رابعاً : أن سند الحديثين المذكورين ساقط ، فأما الأول ففيه الصلت بن دينار قال الحافظ : متروك ناصبي، وأما الثاني ففيه جهالة من حدث عن أنس وبمثله لا تقوم حجة ولا يصلح به استدلالا .
وقد جاءت أحاديث بهذا المعنى كلها لا تصلح .
الشيخ : عبد الله بن فيصل الأهدل
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل الكتاب ، وهزم الأحزاب .
الحمد لله الذي جعل القرآن بياناً وتبياناً لا شك فيه ولا ارتياب ، ولا إله إلا الله كلمة قامت عليها الأرض والسموات ، وابتدئت بها الرسالات ، وجردت لأجلها السيوف القاطعات .
وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين ، والمبعوث رحمة للعالمين ، جاء بالحق اليقين ، والنور المبين ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
أما بعد :
إننا في زمان تلبّس معظم أهله بالجهل ، واتبعوا صوت كل ناعق ، فعميت أبصارهم وبصائرهم عن معالم سنن الهدى ، ونطق فيهم الرويبضة ، فأفتى بغير علم فضلَّ وأضل .
وإن من أشد أنواع الجهل جهلاً أن لا يُفرّق بين الكفر والإسلام ، ولا بين المعصية والطاعة ، وأشد منه أن يُحسب الكفرُ إسلاماً والمعصية طاعةً .
وهذا مبحث مختصر يكشف زيف المارقين الجاهلين ، الداعين إلى الاستغاثة بالأموات والغائبين ، مبيناً في ذلك جهلهم ، ودافعاً إليهم شبههم ، مقرراً فيه ما دلّت عليه الأدلة وأجمع عليه أهل الملّة .
فأقول مستعيناً بالله وحده :
معنى الاستغاثة وأنواعها
الاستغاثة : مصدر الفعل اسثغاث . وهي : طلب الغوث لإزالة الشدة .
مثل الاستعانة : طلب العون .
قال تعالى : ] فاستغاثه الذي من شيعته [ .
فالاستغاثة إذاً من جنس الدعـــاء ، إلا أن الدعاء أعم فيكون لإزالة الشدة – وهو الاستغـاثة - ، أو لجلب الخير - فيكون إستعانة - .
وقال بعضهم : [ الاستغاثة هي الإعانة ] .
وعلى أية حال فهي لا تخرج عن الدعاء ، كما قال تعالى :
] إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [ .
ومعلوم يقيناً وقطعاً أن الدعاء منه ما هو عبادة ، ومنه ما ليس كذلك ، فأما الذي هو عبادة فلا يجوز صرفه لغير الله تعالى ، لأن من صرف شيئاً من العبادات الشرعية صغرت أم كبرت لغير الله تعالى صار كافراً مرتداً بإجماع أهل الإسلام، ومما يدل على ذلك :
قول الله تعالى :] ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [ .
وقوله تعالى : ] وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً [ .
وقوله تعالى ] ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين [ .
وقوله تعالى : ] ومن أضل ممن يدع من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون [ .
وقوله تعالى : ] له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى المـاء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال [ .
وقوله تعالى : ] والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ، إن تدعوهم لا يسمعــوا دعاءكم ولو سمعــوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم [ .
وغيرها من الآيات الكثيرة الدالة على هذا المعنى .
ومن الأحاديث : قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري (( من مات وهو يدع من دون الله ندّاً دخل النار )).
وقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد والترمذي (( الدعاء هو العبادة )) . ومما يدل على أن الدعاء هو العبادة من القرآن :
قوله تعالى ] وقال ربكم أدعوني أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [ .
وقوله ] وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً ، فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب [ .
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين (( ينـزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ثم يقول : من يدعوني فأستجب له ؟ ... )) الحديث .
وعند أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وصححه (( من لم يدع الله يغضب عليه )) .
والصنف الثاني من الدعاء ؛ الذي هو ليس بعبادة ، فهذا ليس بشرك ولا كفر . ومن ذلك :
استغاثة ذلك الرجل بموسى عليه السلام في قوله تعالى : ] فاستغاثه الذي من شيعته [ .
ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- (( من دعاكم فأجيبوه )) .
ومثله في النصرة ] وإن استنصروكم فعليكم النصر [ .
ومثله في الإعانة ] فتعاونوا على البر والتقوى [ .
وفي الحديث (( والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )) .
بيان حكم الاستغاثة
من خلال ما قدمنا يقوم الجواب عن سبب كتابة هذه الأسطر وهو :
حكم الاستغاثة بالأموات والغائبين ، بل والحاضرين فيما لا يقدر عليه إلا الله .
فهل هذه الاستغاثة من النوع الأول فتكون شركاً مخرجاً من الملة ؟
أم من النوع الثاني فلا تكون شركاً ؟
وللإجابة عن ذلك :
ينبغي أولاً معرفة حال المشركين ، الذين كفّرهم القرآن ، لصرفهم الدعاء لغيره تعالى الذي مر في الآيات السابقة .
فالمشركون هؤلاء لم يكونوا يجحدون وجود الله بل كانوا يقرّون ويعترفون أن الله سبحانه وتعالى خالقهم ومدبّر شأنهم ومالك أمرهم وأنه المحيي والمميت وأنه رب السموات والأرض ؛
قال تعالى ] ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ .
وقال تعالى ] ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [ .
وقال تعالى ] قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار والأفئدة ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبّر الأمر فسيقولون الله ، فقل ألا تتقون [ .
وقال تعالى ] قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون ، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون [ .
وقال تعالى ] قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تصرفون [ .
ومع كل ذلك كفّرهم القرآن ، ووصفهم بالشرك ، ومما كفّرهم به أنهم جعلوا لهم وسائط بينهم وبين ربهم ، يتوجهون إليها ويدعونهم ويستغيثون بهم ؛
قال تعالى ] ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [ .
وقال تعالى ] والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ . وقد قدمنا أن الدعاء هو العبادة .
وهؤلاء المدعوون من الأصنام كان منهم رجال صالحون ، كما جـاء في صحيح البخاري من قول ابن عباس عن ؛ ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، أنهم رجال صالحون عُبدوا بعد موتهم .
ومنهم أنبياء وملائكة وغير ذلك اتخذوهم وسطاء وشفعاء عند الله ، يرفعون إليهم حاجاتهم ، ويستغيثون بهم ، حيث جعلوا الله كملوك الأرض يحتاجون إلى وسطاء في رفع الحوائج .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه < الواسطة بين الحق والخلق ص 18 > : [ ومن أثبتهم ( أي الأنبياء والصالحين ) وسائط بين الله وخلقه كالحجّاب بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه ، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم ، فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله ، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم ، والناس يسألون أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك ، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك ، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج ، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك ، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، وهؤلاء مشبهون لله شبّهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أنداداً ] .
وكان هؤلاء المشركون يعتقدون في عبادتهم لتلك الأصنام أنها قربة إلى الله .
قال الإمام البكري الشافعي عند قوله ] من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار والأفئدة ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [ الآية : [ فإن قلتَ : إذا أقرّوا فكيف عبدوا الأصنام ؟ قلتُ : كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله ( وهكذا ما يفعله عباد القبور ) والتقرّب إليه ولكن بطرق مختلفة ، ففرقة قالت : ليس لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته ، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى . وفرقة قالت : الملائكة ذو جاه ومنزلة عند الله تعالى ، فاتخذنا لنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى . وفرقة قالت : جعلنا الأصنام لنا قبلة في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته . وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله ( وهذا ما يعتقده أيضاً كثير من عبدة القبور أن للولي الفلاني نفر من الجن مسخّر له بزعمهم ) فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان بأمر حوائجه ، وإلا أصابه شيطانه بنكبة بإذن الله ] .
وقال شيخ الإسلام في الرسالة السنية : [ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام ، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق ، أو تنـزل المطر ، أو تنبت النبات ، وإن كانوا يعبدونهم ويعبدون قبورهم أو صورهم ، ويقولون : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى . ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . فبعث الله رسله تنهي أن يدعى أحد من دونه ، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثــة ، وقال : ] قل ادع الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشـف الضـر عنكم ولا تحويلاً ، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب [ ] < راجع كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان لمحمد بشير السهسواني > .
وبعد كل ما تقدم نقول :
هل ما يفعله المستغيثون بالأموات ونحوهم من الأنبياء والصالحين يشابه ما يفعله المشركون أم لا ؟
الجواب :
الحق الذي لا مرية فيه أن هؤلاء قد صنعوا عين ما فعله المشركون بل زادوا عليه .
وإليك برهان ذلك :
أولاً : إنهم جعلوا من يستغيثون بهم وسائط بينهم وبين الله ، فشبهوا الله بملوك الأرض ، وهذا التشبيه شرك صراح تنـزه الله عنه ، قال تعالى ] ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ .
يقول أحد أقطابهم معترفاً بهذه الوسائط بأنه [ لا يوجد أحد يعبد نبياً أو ولياً ، وإنما غاية ما يفعله الناس أن يجعلونهم وسائط بينهم وبين خالقهم ] .
وهذا الجاهل المصرّح بذلك لا يعرف معنى العبادة ، إذ العبادة عنده صلاة وصوم ونحوها ، لذلك كان أجهل من المشركين بمعنى العبادة .
فالمشركون كانوا يعرفون أن العبادة تشمل الصلاة والزكاة والصيام والحج والنذر والذبح والدعاء والاستغاثة والاستعانة واتخاذ الوسائط قربى ، فلذا قالوا وهم عالمون بذلك : ] ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ .
أما هؤلاء فلجهلهم بمعنى العبادة وحقيقتها - حيث اقتصر مفهومها على الشعائر ونحوها - وقعوا في الشرك والكفر بصرفهم بعض العبادة لغير الله .
قال الإمام الصنعاني في كتابه < تطهير الاعتقاد ص 51 > رداً على قولهم : [ نحن لا نعبـد هؤلاء ولا نعبد إلا الله وحده ولا نصلي ولا نصوم ولا نحج لغيره ، قلتُ : هذا جهل بمعنى العبادة ، فإنها ليســت منحصرة فيما ذكرنا ، بل رأسها وأساسها الاعتقاد ، وقد حصل في قلوبهم ذلك بل يسمونه معتقداً ، ويصفـون له ما سمعت مما يتفرّع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم والتوسل بهم و الاستغاثة والاستعانة والحلف والنذر وغير ذلك ] إلى أن قال [ ومن تكلم بكلمة الكفر صار كافراً فكيف بمن بلغ هذه المرتبة اعتقاداً وقولاً وفعلاً ] .
وقال أيضاً < صفحة 4.-41 > في ردّه على مثل قولهم : نحن لا نشرك بالله شيئاً ولا نجعل لله نداً وإن الالتجاء إلى الأولياء ليس شركاً . قال الصنعاني : [ نعم يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم ، ولكن هذا جهل بمعنى الشـرك ، فإن تعظيم الأولياء ونحرهم النحائر شرك والله يقول ] فصل لربك وانحر [ أي لا لغيره كما يفيده تقديم الظرف ، ويقول تعالى ] وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً [ ] .
ثانياً : إنهم اعتقدوا فيمن يستغيثون به ما يعتقدون في الله تعالى ، فإنهم جعلوا لهم سمعاً مطلقاً وعلماً مطلقـاً ، فتراهم يدعونهم ربما على بعد آلاف الأميال ، فذاك في مصر يستغيث بمن في العراق ، وذاك في اليمن يستغيث بمن في الهند ، اعتقاداً منه أنه يعلم بحاله ويسمع ندائه ودعائه ، وقادر على تحقيق طلبه من جلب خير أو دفع ضر وأنه حاضر وقت الطلب ، فتسمع : يا محضار احضر ، وغير ذلك .
[ ومن المواقف العديدة المعاصرة في ذلك أنه قد زعم الخليفة الحالي للسيد البدوي في مولد عام 1991م ( أن السيد البدوي معك أينما كنت ولو استعنت به في شدتك وقلت : يا بدوي مدد ، لأعانك وأغاثك ) قال ذلك أمام الجموع المحتشدة بسرادق وزارة الأوقاف بالقاهرة أمام العلماء والوزراء وقد تناقلته الإذاعات وشاشات التلفاز ] < مجلة البيان العدد 132 ص42 > .
ثالثاً : إنهم أعظم من الأوائل شركاً . فإن الأوائل يدعون معبوداتهم في الرخاء ، فإذا حلّت بهم النازلة وأشرفوا على المهالك ، تركوا أصنامهم وهرعوا إلى ربهم مخلصين له .
قال الله تعالى ] وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون من دون الله ، فلما نجّاهم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً [ .
وقال ] وإذا مسّ الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ، ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل .. [ .
وقال ] وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين [ .
وهذا بخلاف ما يفعله المستغيثون بالأموات والغائبين ، فإنهم إذا دهمتهم الشدائد ، وحلت بهم المهالك ، اشتدت اسغاثتهم بهم وكثرت النذور ، وهذا أمر يعرفه كل من خالطهم أو سار معهم ، وتراهم فوق ذلك يطوفون حول قبورهم ومشاهدتهم ويشرعون لها المناسك ، وهذا موجود عندنا في حضرموت كزيارة نبي الله هود المزعومة ، والحول السنوي عند قبر علي بن محمد الحبشي وغيرها ، وربما قال بعضهم للقادم من هناك ( حج مقبول أو مبرور ) ونحوها من العبارات .
[ وعلى ذلك فليس بمستغرب أن يقول السخاوي : جاء الحجّاج هذه السنة لسيد أحمد بدوي من الشام وحلب ومكة أكثر من حجاج الحرمين ] < مجلة البيان العدد 132 > .
وربما تقربوا بالنذور إليهم بما لا يتقربون به إلى الله ؛
يقول الشوكاني في الدر النضيد : [ وأما التقرّب إلى الأموات ، فانظر ما يجعلونه من النذور لهم على قبورهم في كثير من المحلات ، ولو طلب الواحد منهم ليسمح بجزء من ذلك لله تعالى لم يفعل ، وهذا معلوم يعرفه من عرف حال هؤلاء ] < راجع صيانة الإنسان ص 161 > .
[ ومن ذلك أن أبا المواهب الشاذلي يقول : ( رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي إذا كانت لك حاجة وأردت قضاءها فانذر لنفيسـة الطاهرة ولو فلساً فإن حاجتك تُقضى ) < طبقات الشعراني 2/74 > فهذا الحلم الشيطاني دعوة صريحة للشرك بالله ونقض التوحيد ] < البيان العدد 131 ص 55 > .
رابعاً : إنهم يطلبون ممن يستغيثـون بهم من الأموات والغائبين ، أموراً لا يقدر على تحقيقها نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا أحد من الخلق أبداً ، وينادونهم بالألفاظ التي لا تليق إلا بالله تعالى ، مما يدل على أنهم يعتقدون فيهم كمال التصرّف في الكون ، وأنهم قادرون على ما لا يقدر عليه البشر من جلب الرزق والشفـاء والولــد والنصر على الأعداء واعتقاد الضر والنفع ، بل ربما رأوا أنهم إن دعوا الله لم يستجب لهم ، وإن دعوا غيره من أوليائهم استجاب لهم وسارع في تحقيق مطلبهم ، بل تفضّل عليهم بأكثر مما طلبوا .
[ وقد أورد أبو بكر العراقـي عن بعض القبوريـين وهو إمام وخطيب في أحد مساجد ديالي المهمة يقول : ( دعوت الله ست سنوات أن يرزقني الولد فلم أرزق ، وذهبت إلى شيخــي مصطفى النقشبندي – أربيل – فما أن استغثت به وطلبت منه الولد حتى رزقت بطفلين توأمين ) .
تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
وهذا النموذج الصارخ يحوي على جميع أنواع الشرك ؛ ربوبية وألوهية وأسماء وصفات ] < مجلة البيان العدد 132 ص 56 > .
وقد صرّح أحد كبار التنظير القبوري وهو أحمد بن محمد بن صديق الغماري بوجود الشرك الأكبر الصراح في القبورية ، قال : [ .. وإن عندنا في المغرب من يقول في ابن مشيش إنه خلق الابن والدنيا ، ومنهم من قال والمطر نازل بشدة : يامولانا عبد السلام الطف بعبادك !! فهذا كفر ] < البيان العدد 132 ص 63 > .
يقول محمد بن علي خرد : ثلاثة لا تزال خيل ساحتهم مسرجة ملجمة لمن دعاهم أو استغاث بهم ( عمر المحضار ، وعلوي بن محمد بن الفقيه المقدم ، وابنه علي بن علوي خالع قسم ) . فنظمهم بقوله :
إذا خفت أمراً أو توقعت شدة فنوه بهم أن يدركوك ويحضروا
فنوه بعلوي الفتى وابنه علي كذا عمر فيما يحل ويعسر
فغارتهم تنجيك من كل شدة وعسر وضيق أو بصدرك يكبر
< راجع المشرع الروي ص 2.1 >
وتراهم أيضاً يطلبون منهم العفو ومغفرة الذنوب وإجابة الدعوة ويرجونهم .
يقول البرعي في استغاثته برسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
أرجوك في سكرات الموت تشهدني كي ما يهون إذ الأنفاس في صعد
وإن نزلت ضريحاً لا أنيــس به فكن أنيس وحيد فيه منفــرد
وارحـم مؤلفها عبد الرحيم ومن يليه من أجله وانعشه وافتقــد
وإن دعا فأجبه واحـمِ جانبــه من حاسد شامت أو ظالم نكـد
وقال بعضهم في استغاثته بميت :
وامنن علي بتوفيق وعافيـــة وخير خاتمة مهما انقضى عمري
وكفَّ عنا أكف الظالمين إذا أشـ ـتدت بسوء لأمر مؤلم نكـرِ
فإنني عبدك الراجي بودك مــا أمّلته يا صفي السادة الغــررِ
قال بعض العلماء : [ فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنـزلة ، وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه ، فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون من عبدوه لشيء من هذا ] < راجع تيسير العزيز الحميد ص142-143 > .
فهذا الغلو في الأموات بلغ بهم أن صيّروهم أصناماً ، قال ابن كثير في البداية والنهاية عن موت السيدة نفيسة سنة 2.8هـ وتعظيم المصريين لها ولقبرها : [ وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها ] وقال الذهبي في ترجمة السيدة نفيسة في < السير 1./1.6 > : [ ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف ولا يـجوز مما فيه من الشرك ، ويسجدون لها ويلتمسون منها المغفرة وكان ذلك من دسائس دعاة العبيدية ] .
وبعد هذا كله ؛ لا يستريب لبيب ، ولا يشك كل من له أدنى مسكة عقل ، في أن هؤلاء قد ارتكبوا الكفر البواح ، والشرك الصـراح الذي لا تأويل معه ، فإن لم يكن ما فعلوه كفراً وشركاً فليس في الدنيا بعده كفر ولا شرك .
الرد على الشبه
بقي هناك أبواب الشيطان ( باب الشبه ) يدلج منه هؤلاء ويلبسون على الناس ، فيظهرون الباطل بلباس الحق ، يخدعون به من لا علم عنده .
ومعلوم أن باب الشبه باب واسع كلما أُغلق منه باب فتح لهم الشيطان أبواباً ، ولذا جعلت ما قدمته أصلاً عاماً يُرد به عليهم في هذا الباب .
وسأورد مجمل الشبه التي يتشبث بها هؤلاء القبوريون وأرد عليها بما يتناسب مع المقام :
( 1 ) قولهم : [ إن الأولياء والصالحين الذين نستغيث بهم لا نعتقد فيهم ضرّاً ولا نفعاً ، بل الضر والنفع لله وحده ] .
الجواب عن ذلك : إن مجرّد اعتقاد الضر والنفع لله وحده لا يكفي لجعل المرء مسلماً موحداً ، فكفاّر قريش كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد أن النافع والضار هو الله فلما صرفوا الدعاء لغير الله شرّكهم الله . ولو أن رجلاً سبَّ الله أو رسوله أو دين الإسلام أو حلّل ما أجمعت الأمة على تحريمه كَفَرَ إجماعاً ، ولو ادعـى وقال : أنا أعتقد الضر والنفع لله وحده . لم يكن ذلك مانعاً من تكفيره واستحلال دمـه ومالـه . وكذا شأن من صرف شيئاً من أنواع العبادات لغيره تعالى ، وجعل مع الله واسطة يتقـرب بها إلى الله ، كما مر بيانه وسيأتي نقل الإجماع على ذلك .
أضف إلى ذلك أن من هؤلاء القبوريين من صرّح بأن هؤلاء المدعوّين يملكون التصرّف في الكون وقضاء الحاجات ، وهذا داخل في باب الضر والنفع ، وقد مر بك بعض أقوالهم .
وقال الآلوسي في < روح المعاني م2ج3ص129 > : [ ولا أرى أحداً ممن يقول ذلك ( يعني أغثني يا فلان ) إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب و يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ورفع الأذى ، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ، فالحزم التجنب من ذلك إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد ] .
( 2 ) ومن شبههم أيضاً قولهم : [ إن الاستغاثة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد ثبتت بالأدلة الصحيحة ، منها ما رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : ادع الله أن يعافيني . قال : (( إن شئت دعوت لك وإن شئت أخرت ذلك وهو خير لك )) فقال : ادعه . فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء (( اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي ، اللهم فشفعه في وشفعني فيه )) ففعل الرجل فبرأ . وبحديث فتح الكوّة وقد رواه الدارمي ، وملخصه : أن الناس شكوا إلى عائشة القحط فأشار إليهم أن يفتحوا كوّة إلى السماء من فوق قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- . ففعلوا . فأمطروا حتى نبتت العشب وسمنت الإبل . وغيرها من الأحاديث القريبة مما ذكرنا ] .
الجواب : إن حديث الضرير المذكور بهذا اللفظ صحيح الإسناد ، ولكنه لا يصلح دليلاً ولا شاهداً على مشروعية الاستغاثة بالأموات والغائبين ، لأن فيه توسلاً بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حاضر ، والكلام إنما في جواز الاستغاثة بالأموات والغائبين ، والأحياء فيما لا يقدرون عليه .
ففرق بين التوسل والاستغاثة في اللفظ والمعنى ، فالتوســـل إنما فيه طلب الدعاء من المتوسل به ، وأما الاستغاثة ففيها طلب قضاء الحاجة من المستغاث به ، فالأولى سؤال الله أما الثانية سؤال غير الله .
وبمثل هذا الكلام يُرد على ما يورده هؤلاء من أدلة التوسل على مشروعية الاستغاثة . وهذا إما جهل منهم أو تعصب .
وأما حديث فتح الكوّة فإسناده ضعيف . فيه سعيد بن زيد ، ضعفه الذهبي في الميزان ، وقال الحافظ في التقريب : صدوق له أوهام . وفيه عمر بن مالك المنكري ، قال في التقريب : صدوق له أوهام .
وقال شيخ الإسلام في رده على البكري [ إنه ليس بصحيح ولا يثبت إسناده ] .
ولو صح هذا الأثر فليس فيه استغاثة ، غاية ما فعلوه فتح الكوّة من قبره إلى السماء فأمطروا ، ففيه تبرّك لا طلب غوث منه -صلى الله عليه وسلم- .
( 3 ) ومما تمسكوا به قولهم : [ قد ثبتت استغاثة العباد يوم القيامة بالأنبياء حتى انتهوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ] .
الجواب : إن الاستدلال بحديث الشفاعة يوم القيامة ، ليس فيه طلب غوث من ميت ، بل المطالبون بالشفاعة في ذلك اليوم أحياء . ومع ذلك فالشفاعة في ذلك اليوم لا تكون منه -صلى الله عليه وسلم- مباشرة ، بل بعد إذن الله ورضاه ، فيسجد ويقال له : ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع . فالناس في ذلك اليوم إنما طلبوا الدعاء منه -صلى الله عليه وسلم- وجميعهم أحياء ، والكلام هنا إنما هو عن الاستغاثة بالأموات والغائبين وطلب أن يقضوا حاجاتهم بأنفسهم لا أن يدعوا الله لهم .
( 4 )ومما تمسكوا به : [ حديث (( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور )) ] .
الجواب : إن هذا الحديث المزعوم كذب واختلاق .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في< القاعدة ص 157 > : [ فهذا الحديث مفترى على النبي -صلى الله عليه وسلم- بإجماع العارفين بحديثه ، لم يروه أحد من العلماء بذلك ، ولا يوجد في شيء من الكتب المعتمدة ] .
وقال صاحب < تيسير العزيز الحميد ص 249 > : [ وقولهم ( لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه ) قال ابن القيم : وهو من وضع المشركين عباد الأوثان ] .
( 5 ) ويحتجون أيضاً بما [ رواه ابن أبي يعلى عن ابن مسعود مرفوعاً : (( إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلات فلينـاد : يا عباد الله احبسوا علي ،يا عباد الله احبسوا علي ، يا عباد الله احبسوا علي ، فإن لله حاضراً سيحبسه عليكم )) قالوا : وقد جرّب ذلك فنفع . وفي حديث ثان (( إذا ضل أحدكم شيئاً وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل : يا عباد الله أغيثوني ، يا عباد الله أغيثوني ، فإن لله عباداً لا نراهم )) وثالث عن ابن عباس (( إن لله ملائكة سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر ، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلات ، فليناد : يا عباد الله أعينوني )) ] .
والجواب : أما الحديثان الأولان فضعيفان . فالأول مداره على معروف بن حسان وهو منكر الحديث قاله ابن عدي فيما نقله عن الذهبي< تيسير العزيز ص 247 > ، كما أن في سنده انقطاع بين أبي بريدة وابن مسعود كما قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه ابن علان في شرحه للأذكار : [ وللحديث طريق معضل أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن محمد بن اسحاق عن أبان بن صالح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال : .. فذكر نحوه ، وهذا مع إعضاله فيه عنعنة ابن اسحاق ] .
وأما الحديث الثاني فقد رواه الطبراني في الكبير وسنده ضعيف . ففيه عبد الرحمن بن شريك وهو ابن عبد الله القاضي كلاهما ضعيف . فالابن قال عنه الحافظ : صدوق يخطئ ، وقال في أبيه : صدوق يخطئ كثيراً تغيّر حفظه منذ ولي القضاء في الكوفة ، وقال الهيثمي عن هذا السند [ رواه الطبراني ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم ] . كما أن فيه انقطاعاً بين عتبة وابن علي ، كما قال الحافظ في تخــريج الأذكار : [ أخرجه الطبراني بسند منقطع ] .
وأما الأثر الثالث عن ابن عباس فاختلف في رفعه ووقفه ، فقد جاء من طريقين الأولى عند البزار مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، والثانية عند البيهقي في الشعب موقوفاً على ابن عباس ، وإسناد الطريقين حسنإلا أن جعفر ابن عون وهو في سند البيهقي أوثق من حاتم بن إسماعيل في سند البزار ، فإنهما وإن كانا من رجال الشيخين ، فالأول لم يجرح بشيء ، بخلاف الآخر فقد قال فيه النسائي ليس بالقوي ، وقال غيره كانت فيه غفلة ، ولذلك قال فيه الحافظ صحيح الكتاب صدوق يهم ، وقال في جعفر صدوق ، ولذلك فالحديث معلول بالمخالفة والأرجح أنه موقوف . < راجع السلسلة الضعيفة للمحدث الألباني برقم 655-656 > .
وذكر بعضهم في هذه الأحاديث علل غير ما ذكرنا . < راجع هذه مفاهيمنا ص 48-53 > .
ثم لو جاز أن تكون هذه الأحاديث صحيحة الإسناد كسلسلة الذهب ومرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان فيها دليلاً على جواز الاستغاثة الشركية .
ففي الحديث الأول قال (( فإن في الأرض حاضراً )) فليس إذاً بغائب أو ميت .
وفي الحديث الثاني قال (( فإن لله عباد لا نراهم )) وهذا ينطبق على الملائكة الذين جاء ذكرهم في رواية ابن عباس (( إن لله تعالى ملائكة في الأرض )) وقد نقل عن أحمد أنه يعمل بذلك .
فلا حجة إذاً فيما استدلوا به ، فحينئذ هو من الاستعانة الجائزة لأنها معروفة الأسباب وفيما يقدرون عليه .
وأما قولهم ( فقد جرّب فنفع ) فالجواب ما ذكره الإمام الشوكاني في تحفة الذاكرين بمثل هذه المناسبة : [ فأقول إن السنة لا تثبت بمجرد التجربة ، ولا يخرج الفاعل للشيء معتقداً أنه سنة عن كونه مبتدعاً ] < نقلاً من السلسلة الضعيفة رقم 655 > .
( 6 ) واحتجوا بما [ رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة عن ابن عمر y أنه خدرت رجله ، فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك . فقال : يا محمد . فكأنما نشط من عقال] .
الجواب : هذا الأثر موقوف على ابن عمر ، وهو ضعيف ، ففيه محمد بن مصعب ، قال فيه ابن معين كان مغفلاً ، وقال النسائي وأبو حاتم إنه ضعيف ، وقال الخطيب عنه إنه كثير الغلط لتحديثه من حفظه . ولا ينفعه توثيق ابن قانع فهو من المتساهلين . وأما قول أحمد فيه ليس به بأس ، يعني أنه صدوق في نفسه ولكنه ضعيف الحديث . وفيه الهيثم بن حنش مجهول العين قاله الخطيب في الكفاية في علوم الراية . وفيه أبو إسحاق السبيعي وهو مدلس وقد عنعن في روايته عن هذا المجهول . ثم إن أبا إسحاق قد اختلط فمرة رواه عن أبي شعبة ( أو أبي سعيد ) وتارة عن عبد الرحمن بن سعد ، وهذا اضطراب يرد به الحديث .
وجاء أيضاً عن ابن السني عن ابن عباس y أن رجلاً خدرت رجله عنده فقال له : اذكر أحب الناس إليك . فقال: محمد -صلى الله عليه وسلم- . وهذا الأثر في إسناده غياث بن إبراهيم كذبه ابن معين .
وأمثل ماروي في هذا الباب وأصحه على تدليس أبي إسحاق ما رواه البخاري في الأدب المفرد : خدرت رجل ابن عمر . فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك . فقال : محمد . وهذا الأثر يختلف عن الأول ففيه ( محمد ) بدون نداء ، وهذه الرواية عن سفيان وهو من الحفاظ الأثبات ، فنقله خبر أبي إسحاق بهذا اللفظ يدل على أنه هو المحفوظ وسواه غلط مردود .
ولا يجوز الاستدلال بمثل ما ذكرنا على جواز الاستغاثة الشركية بالأموات وغيرهم ، فغاية ما فيه ذكر المحبوب لا طلب حاجة منه ، ولا أن يكون واسطة بينه وبين ربه .
ثم ماذا نقول في الكافر إذا ذكر حبيبه فزال خدر رجله ؟!
فإن هذا العلاج كان معروفاً عند الجاهليين قبل الإسلام ، جرّب فنفع ، وليس فيه إلا ذكر المحبوب ، وقيل في تفسير ذلك إن ذكره لمحبوبهيجعل الحرارة تتحرك في بدنه فيجري الدم في عروقه فتتحرك أعصاب رجله فيذهب الخدر .
وقد جاءت الأشعار في هذا كثيراً في الجاهلية والإسلام ، فمنها قول الشاعر :
صبٌّ محبُّ إذا ما رجله خدرت نادى كبيشة حتى يذهب الخدر
وقول جميل بثينة :
وأنتِ لعيني قرة حين نلتقي وذكرك يشفيني إذا خدرت رجلي
وقال الموصلي :
والله ما خدرت رجلي وما عثرت إلا ذكرتك حتى يذهب الخدر
وغيرها من الأبيات في هذا المعنى ، أفيقال أن هؤلاء العشاق استغاثوا بمعشوقاتهم فتقبل الله وساطتهم فذهب خدر أرجلهم . لا عجب أن يجيب القبـــوريون بـ : نعم . فإنهم يستغيثون بمن علم صلاحه أو لم يعلم ، بل ربما استغاثوا بمن عرف عنه الفسـاد ، بل صدر منه الكفر البواح الذي لا تأويل معه . < نقلاً عن هذه مفاهيمنا ص 43-47 بتصرف > .
(7) ومن شبههم أيضاً قولهم : إن الحي ينتفع بالميت ، ودليل ذلك :
أ-مراجعة موسى عليه السلام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج في أمر الصــلاة وتخفيفها ، فلو كان الحي لا ينتفع بالميت لما استطاع موسى مراجعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتخفيف الصلاة .
والجواب على ذلك : أن حادثة المعراج آية خارقة فلا يقاس عليها أبداً ، ثم إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخاطب موسى وهو يراه حاضراً عنده وفي أمر يقدر عليه ، وإنما كلامنا هنا عن الاستغاثة بالغائب والميت ، وموسى وإن كان ميتاً لكنه في حياة برزخية ، وقد ارتقى إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان الجميع في عالم واحد ، ثم أن موسى إنما كانت منه المراجعة فقط ، وأين هذا مما يطلبه القبوريون ويفعلونه عند القبور من طلب الشفاء والولد من المقبور ، أضف إلى ذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يطلب من موسى شيئاً بل كان موسى هو الذي أشار عليه بأن يرجع إلى ربه فيسأله التخفيف فإن هذا من سؤال المخلوق فيما يقدر عليه .
ب-ومن ذلك قولهم : إن مما يدل على أن الحي ينتفع بالميت ما قصّه الله في سورة الكهف في قصة موسى والخضر والغلامين اللذين حفظ الله مالهما بسبب صلاح الأب والأب قد مات بل قيل أنه الأب السابع ، فلوكان الحي لا ينتفع بالميت لما نفع صلاح الأب بعد موت .
والجواب عن ذلك :
أولاً : إن كلامنا هنا عن الاستغاثة بالميت وطلب الغوث منه ،وهو هنا منعدم ، فلا دلالة في ذلك على جوازها .
ثانياً : كون الحي انتفع بصلاح الميت لا يعني جواز الاستغاثة به ، فالله سبحانه قد جعل صلاح الوالد سبباً في رزق الذرية من غير أن تسأل تلك الذرية ذلك الوالد في قبره ، قال تعالى ] وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقلوا قولاً سديداً [ وهذا أمر كوني قدره الله تعالى لا أمر شرعياً ، فقد قدر الله ذلك في كتابه فلا معنى في سؤال الآباء ذلك . وما جاء في قصة الغلامين فهو عين ما قررناه ، فقد حفظ الله مالهما بسبب صلاح الأب من غير أن يطلبا ذلك منه ، فكيف يتمسك بمثل ذلك على جواز الاستغاثة بالأموات .
ت-ومن ذلك قولهم : إن مما يدل على أن الحي ينتفع بالميت أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ كما روى ذلك أبو داود الطيالسي قال : حدثنا الصلت بن دينار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال -صلى الله عليه وسلم-(( إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم فإن كان خيراً استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك )) وبما رواه أحمد عن عبد الرزاق عن سفيان عمن سمع أنسا يقول قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (( إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا )) .
والجواب عن ذلك :
أولاً : إن هذه الأحاديث وغيرها مما جاء في معناها لو صحت فإنما فيها عرض الأعمال والدعـــاء من الأموات للأحياء وكلامنا إنما هو في طلب الغوث من الأموات فهي عكس ما دلّت عليه الآثار ، وليس في هذه الأحاديث ما يدل على ذلك فلا يصلح التمسك بها في هذا الموضوع .
ثانيا : أن فيها دعاء الأموات للأحياء من غير طلب منهم فلا معنى إذا في طلب الدعاء منهم باعتبار ذلك أمراً كونياً وقد تقدم نحو هذا الكلام .
ثالثاً : كون الأموات يدعون للأحياء فلا يعني ذلك طلب الغوث منهم فقد جاء أن الملائكة يدعون للمؤمنين ويستغفرون لهم قال تعالى ] والذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا [ ومع ذلك لم تشرع الاستغاثة بهم قال تعالى ] قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً [ . قالت طائفة من السلف منهم كان أقوام يدعون الملائكة وغيرهم فنهى الله عباده عن دعائهم . قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
[ إذا لم يشرع دعاء الملائكة لم يشرع دعاء الأموات ] < مجموع الفتاوى ج 1/16 > .
رابعاً : أن سند الحديثين المذكورين ساقط ، فأما الأول ففيه الصلت بن دينار قال الحافظ : متروك ناصبي، وأما الثاني ففيه جهالة من حدث عن أنس وبمثله لا تقوم حجة ولا يصلح به استدلالا .
وقد جاءت أحاديث بهذا المعنى كلها لا تصلح .
< وللمزيد راجع سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم : 863و864 و14.8 >
ث-ومن ذلك قولهم : إن مما يدل على أن الحي ينتفع بالميت حديث : (( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ومماتي خير لكم تعرض أعمالكم علي فإن وجدت خيرا حمدت وإن وجدت شرا استغفرت لكم )) .
ويجاب عنه بمثل ما ذكرنا في الحديثين السابقين وهذا تقدير ثبوت إسناده لكنه لم يصح فقد أخرجه القاضي اسماعيل في فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلا عن بكر بن عبد الله المزني ن والمرسل من أقسام الضعيف ورواه أيضاً : البزار بلفظ (( إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام . قال : وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حياتي خير لكم … فذكر الحديث )) . قال : " البزار لا نعلمه يروى عن عبد الله ( ابن مسعود )إلا بهذا الاسناد " .
وهذا اسناد فيه عبد المجيد بن أبي رواد وهو ممن لم يقبل ما ينفرد به عندهم ولذا قال العراقي في< تخريج الإحياء ج4/128 > [ رجاله رجال الصحيح إلا أن عبد المجيد وإن أخرج له مسلم ووثقهابن معين والنسائي فقد ضعفه بعضهم ] .
وأول الحديث : (( إن لله ملائكة …. )) محفوظ من حديث سفيان عن عبد الله بن السائب به . واتفق رواة الحديث عن سفيان على هذا القدر ثم أتى عبد المجيد فتفرد عنه بزيادة (( حياتي خير لكم … )) فهذه شاذة ضعيفة لتفرده واغتر بعضهم لقول الهيثمي في مجمعه بعد ذكر رواية البزار : رجاله رجال الصحيح ، ففهم منها أن الحديث صحيح وهذا جهل وقصور بألفاظ المحدثين ، فإن هذه العبارة لا تعني صحة الحديث عندهم ، وإن ذكر العراقي في طرح التثريب ليس فيه مخالفة لقوله فإن إسناده جيد هو معناه دون الصحيح ، وعبارته المتقدمة يعني بها أنه ليس من رجال الصحيح المتفق على إتقانهم بل هو دون ذلك إلى الحسن أقرب .
< راجع سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم " 975 وكتاب هذه مفاهيمنا ص86 وما بعدها >
الذي يظهر أن الحديث يتقوى بالمرسل السابق ، وهذه زيادة ثقة صحح مخرجها ، وليس فيها معارضة والله أعلم .
(8) ومن شبههم قولهم : إن هؤلاء المانعين الاستغاثة عمدوا إلى الآيات القرآنية التي نزلت في شأن الكفار والمشركين فحملوها على الخواص والعوام من المؤمنين وذهبوا يحتجون بها على منع الاستغاثة ويكفرون الأمة كالخوارج .
والجواب عن ذلك :
أولاً : إن نزول جميع الآيات في هذا الموضوع في المشركين غير مسلم به ألا ترى أن الله تعالى يقول : ] وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا [ والمخاطب فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : قتادة عند هذه الآية كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يوحده وحده ومن ذلك أيضاً قوله تعالى ] فلا تدع مع الله إله آخر فتكون من المعذبين [ فأمره بعبادته وحده مع أنه -صلى الله عليه وسلم- معصوم من الشرك ومنـزه عنه . وقال عن المرسلين ] ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [ . وقال عن سيدهم -صلى الله عليه وسلم- ] لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ .
وبالجملة كفى بتلك الآيات حجة على منع دعاء غير الله سواء قيل إنها نزلت في المشركين وغيرهم .
ثانياً : أنه لو سلم أن هذه الآيات نزلت في المشركين فألفاظها عامة كقوله تعالى ] والذين يدعون من دونه [ وقوله ] من يدعوا من دون الله [ وقد تقرر في محله أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولو خصصت الآيات بما نزلت فيه لبطل معظم أحكام الإسلام . راجع الصيانة ص428.
فالله تعالى لما حرم الشرك وشعبه لم يكن ذلك خاصا بالمشركين فحسب فهذا أبو واقد الليثي رضي الله عنه قال [ خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسى] اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون [ لتركبن سنن من كان قبلكم ] < رواه أحمدوالترمذي وصححه > فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنكر عليهم بما ذكر .
(9)- ومن شبههم أنه قد جاء الحديث المرفوع (( إن لله خلقا خلقهم لحوائج الناس يفزع إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله )) ووجه الاستدلال أن الذين يفزع إليهمقد جاء ذكرهم لفظاً منكراً [ خلقاً ] فيشمل الأحياء والأموات .
والجواب عن ذلك : إن هذا الحديث رواه الطبراني وابن عدي قال : الهيتمي في المجمع " وأحمدابن طارق الراوي عنه لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح " ج8/192 . ورواه ابن عساكروابن عدي في الكامل وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه وهذا اسناد ضعيف جدا وإن قيل بوضعه كان متجهاً لأن عبد الرحمن حدث عن أبيه بموضوعات كما قال الحاكم وغيره والراوي عنه عبد الله ابن إبراهيم من الضعفاء . < راجع هذه مفاهيمنا ص166-167 > .
ولو صح لوجب حمله على الأحياء الحاضرين فيما يقدرون عليه لا الأموات والغائبين لما تقدم تحريره .
(1.)-ومن شبههم ما ذكره البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب : يزفون النسلان . من قول هاجر في قصتها الطويلة حينما ذهب عنها الخليل وتركها وابنها فلما عطشا قامت تنظر وتذهب بين الصفا والمروة سبع مرات فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صهٍ ( تريد نفسها ) ثم تسمعت أيضا فقالت : قد أسمعتَ إن كان عندك غِواث ، وفي رواية : أغث إن كان عندك خير فإذا بالملك [ جبريل ] عند موضع زمزم .. الحديث .
والجواب عن ذلك : أن كلامنا إنما هو عن الاستغاثة بالأموات والغائبين وهاجر إنما استغاثت بحاضر سمعت صوته فثبت أن إيراد مثل هذا الحديث في مثل هذا الموضع في غير محل النزاع فلا يلتفت إليه . كما أن هذا الحديث لا يدل على مشروعية الاستغاثة بالملائكة مطلقا فإن هاجر لم تستغث به ابتداءإلا بعد حضوره وسماعها صوته .
(11)- ومن شبههم قولهم : إن سؤال الغائب حيا وميتا كسؤال المشاهد فإن الأنبياء والأولياء يسمعون خطاب الغائب البعيد ويسمع أحدهم خطاب البعيدين له .
فالجواب : أصل تلك الدعـوى مردود . فمن أين لكم اثبات أن سؤال الغائب والميت كسؤال المشاهد ؟ ومن أين لكم إثبات أن الميت يسمـع مطلق الخطاب ؟ ومثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يسمع له ، ومن ادعى تلك الدعوى فقد جعل لهم سمعا مطلقا مضاهاة لله عز وجلّ وكفى به شركا وكفراً .
ثم قياس الميت على الحي في ذلك باطل فإن الحي نفسه سمعه محدود لا يسمع خطاب البعيد .ثم لو صح أنهم يسمعون نداء القريب والبعيد فلا يعني ذلك مشروعية سؤالهم والاستغاثة بهم فإن هذا يحتاج إلى دليل آخر لإثباته وأنى لهم ذلك ؟ .
فإن قال قائل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة إنه يسمع الخطاب القريب والبعيد وعليه تشرع الاستغاثة به ! والجواب عن ذلك : أنه ليس في هذا حديث معروف يدل على التسوية بين القريب والبعيد في شيء من خطابه بل الحديث يدل على نقيض ذلك فعند أبي داود وغيره من حديث أوس بن أوس قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (( إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي )) قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ قال : يقولون بليت . قال : (( إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )) .
وبما أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة قال : رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (( لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) وحديث النسائي عن ابن مسعود مرفوعاً : (( إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام )) .
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : (( ما من أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أرد السلام )) .
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن الصلاة والسلام يعرضان عليه وأنه يسمع صلاة وسلام القريب ويبلغ سلام البعيد لا نه يسمع ذلك من المصلي والمسلم وإذا لم يسمع الصلاة والسلام من البعيدإلا بواسطة فإنه لا يسمع صلاة الغائب واستغاثته بطريق الأولى والأحرى ، والنص إنما يدل على أن الملائكة تبلغه الصلاة والسلام ولم يدل على أنه يبلغه غير ذلك .والحديث الذي فيه ما من رجل يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أرد عليه } فهم منه العلماء السلام عند قبره خاصة ولا يدل على البعيد لما ذكر آنفا أن الملائكة تبلغة الصلاة والسلام ولو كان يسمع الخطاب بنفسه لم يحتج إلى واسطة فوجب حمله على البعيد < نقلا عن تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكريص95-1.8 و 25.-257 . بتصرف . تحقيق : عجال > .
ثم لو صح سماعه -صلى الله عليه وسلم-الصلاة والسلام من البعيد والقريب فليس فيه دلالة على مشروعية طلب الغوث من ولا تلازم بينها كما تقدم .
(12)-ومن جملة شبههم قالوا أنتم المانعون من الاستغاثة بالأموات والغائبين تستدلون بمثل قوله تعالى] إياك نعبد وإياك نستعين [ وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ))فأنتم بذلك أيها المانعون آخذون ببعض النصوص وتاركون لبعضها فإنه قد جاء ما يدل على مشروعية الإستعانة بمثل قوله تعالى ] وتعانوا على البر والتقوى [ وبقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- (( والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )) وتوفيقاً بين هذه النصوص يكون الجمع بينها إذا سألت فاسأل الله أولا . فسؤالك لله أولا وسؤالك لغيره واستغاثتك بغيره ثانياً .
والرد على ذلك من وجوه :
أولاً : نحن لم نستدل على منع تلك الاستغاثة الشركية بتلك الآية وذلك الحديث فحسب . بل بغيرهما أيضاً من النصوص القطعية الدالة قطعاً على كفر من استغاث بالأموات والغائبين .
ثانياً : إننا لا نقول إن الإستغاثة والاستعانة على اطلاقهما شرك بل منها الشرك ومنها غير ذلك وقد تقدم بيان ذلك في أول هذا المبحث .
ثالثاً : إن المعترض أراد أن يوفق بين النصوص ولا خبرة له بها ولا بطرق الجمع بينها ولا معرفة له بدلائلها فإن الاستعانة بقوله تعالى ] إياك نعبد وإياك نستعين [ وكذا في قوله -صلى الله عليه وسلم- (( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله )) تختلف عن الاستعانة في قوله تعالى ] وتعانوا على البر والتقوى [ وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- (( والله في عون العبد … )) الحديث . فالأولى استعانة لا تطلب إلا من الله وحده ولذلك قدم المعمول عل العامل المفيد للحصر وهذه الاستعانة هي الاستعانة منه تعالى على عبادته وحده وهي تعني التوكل عليه والتبرؤ من الحول والقوة قال ابن كثير عند تفسيره لـ ] إياك نعبد وإياك نستعين [ : [ فالأول تبرؤ من الشرك والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجلّ وهذا المعنى في غير آية في القرآن كما قال تعالى ] فاعبده وتوكل عليه [] قل هو الرحمن آمنا به وعليه وكلنا [ ] .
وقال الإمام ابن القيم عند تفسيره للآية : [ وهذان أصلان وهما التوكل والعبادة قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع قرن بينها فيهما هذا أحدهما ثم ذكر خمسة مواضع جاءت فيها العبادة مقرونة بالتوكل ]. < راجع التفسير القيم ص66 > .
فمعنى الاستعانة هنا هي التوكل والاعتماد عليه سبحانه وحده دون سواه ومثل ذلك حديثابن عباس : (( إذا سألت فاسأل الله …. )) قال ابن دقيق العيد في شرح الحديث : [ أرشده إلى التوكل على مولاه أن لا يتخذ رباً سواه ولا يتعلق بغيره في جميع أموره ما قلّ منها وما كثر وقال تعالى ] ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ ] . وقال ابن رجب في شرحه للحديث :[ وقوله -صلى الله عليه وسلم-(( إذا سألت فأسأل الله … )) منتزع من قوله ] إياك نعبد وإياك نستعين [ فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه والدعاء هو العبادة ] فأنت كما ترى أن الإستعانة في الآية والحديث إنما تتعلق بالتوحيد والعبادة فلا يجوز إذن صرفها لغير الله تعالى ولا طلبها إلا منه وحده .
وأما قوله تعالى ] وتعاونوا على البر والتقوى [ فقد قال ابن كثير في تفسيرها : [ يأمر الله عباده بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر وترك المنكرات وهو التقوى وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون عل المآثم والمحارم ] . فأين هذه من التوكل في الآية السابقة ( آية الفاتحة ) فغاية ما هنا أن الله أمرهم بالتعاون فيما يقدرون عليه من التكليف . ثم أن هذا أمر والأمر تكليف والتكليف خطاب للأحياء لا للأموات فلا يستدل بها على طلب العون من الأموات .
وأما حديث (( والله في عون العبد )) فمعناه أيضاً أن تعينه بقدر طاقتك وهذا ليس شركاً قال الإمام ابن دقيق العيد في شرح الحديث : [ هذا الإجمال لا يسع تفسيره إلا أن منه أن العبد إذا عزم على معاونة أخيه ينبغي له ألاّ يجبن عن إنفاذ قول أو صدع بحق إيماناً بأن الله في عونه ] فليس في الحديثما يدل على طلب الغوث من الميت والغائب وإنما فيه إعانة العبد لأخيه وهذه الإعانة لا تتحقق إلا في الحياة وبقدر الأسباب التي منحها الله إياها فلا يطلب منه أعظم من قدرته وإلا كان ذلك شركاً .
من خلال ما تقدم يتبين أولاً أن معنى الاستعانة في آية الفاتحة وحديث ابن عباس معناه التوكل فلا تصرف إلا لله وأما معناه في قوله] وتعاونوا على البر [ وحديث (( والله في عون العبد )) إعانة في حصول الخير ( وهذا من التكاليف المخاطب بها الأحياء دون الأموات باجماع المسلمين ) .
(13)- ومن شبههم مارواه أحمد وغيره من حديث الحارث بن حسان قال : [ خرجت أنا والعلاء بن الحضرمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-… الحديثوفيه فقلت أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد ]. قالوا : فإن فيه استعاذة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاستعاذة استغاثة فلو كانت شركا لأنكر عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والجواب عن ذلك :
أولا : أن هذه استعاذة حاضر بحاضر وهذا في غير موضع النـزاع ، والاستعاذة بالحاضر فيما يقدر عليه ليست كفراً .
ثانيا : أن الإمام أحمد قد روى هذا الحديث بهذا اللفظ عن زيد بن الحباب حدثه سلاّم عن عاصم عن أبي وائل عن الحارث بن حسان ورواه أيضاً عن عفان عن سلام عن عاصم عن أبي وائل عن الحارث بن حسان ولكن بلفظ أعوذ بالله أن أكون كوافد عاد دون ذكر [ برسوله ] ورواه أيضا الترمذي عن ابن أبي عمر حدثه سفيان بن عيينة عن سلام عن عاصم عن أبي وائل عن الحارث بن حسان بلفظ أعوذ بالله دون ذكر برسوله . فأنت ترى أن زيد بن الحباب قد خالف عفان وهو ابن مسلم الصفار وخالف سفيان بن عيينة . فزيد بن الحباب قال الحافظ عنه : [ صدوق ] . ولكنه قد خالف من هو أوثق منه ، فعفان بن مسلم قال فيه الحافظ : [ ثقة ثبت ] وقال في سفيان بن عيينة : [ إمام ثقة حجة ] وبهذا يكون زيد بن الحباب خالف ثقتان فإنه لو خالف أحدهما فقط لكان كافياً على الحكم على روايته بالشذوذ فما بالك بهما معاً ؟ وأيضاً فإن زيادة ( برسوله ) مخالفة لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- فيمن قال : ما شاء الله وشئت . فقال : (( أجعلتني لله نداً )) (( قل ما شاء الله وحده )) فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك التشريك اللفظي ومثله يقال في ( أعوذ بالله ورسوله ) .
وقد روى حديث الحارث أيضاً النسائي في الكبرى وابن ماجه وأحمد أيضاً في رواية أخرى ولكنها روايات مختصرة ليس فيها شيء من ذلك .
وأصل قصة وافد عاد صحيحة أو حسنة وإنما الكلام عن هذه اللفظة الشاذة فقط .
( 14 ) ومن جملة شبههم الخلط بين النداء الخالي من الطلب والنداء المتضمن طلب غوث ، فيقولون :[ لو كان كل نداء للأموات شركاً لما نادى -صلى الله عليه وسلم- أصحاب القليب في بدر وهو في الصحيح ، ولم يشرع التسليم عليه -صلى الله عليه وسلم- في التشهد ، وكذا التسليم على أهل المقابر . ونحو ذلك مما ورد السنة ] .
والجواب : ينبغي أن يعلم أولاً أننا لا نقول أن كل نداء للأموات شرك ، لأن النداء في أصل معناه هو الصوت كما في الصحاح ، ولكنه مع ذلك قد يتضمن طلباً ، قال في الصحـاح ( وناداه مناداة أي صاح به ) ولربما جاء النداء للندبة تقول : ندبت فلان إذا بكيت عليه وذكرت محاسنه ، ومن ذلك ما رواه البخاري في قول أبي بكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد موته : بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً .وقد تكون الندبة بلفظ ( وا ) فقد روى أحمد من قول أبي بكر أيضاً : وا نبياه وا صفياه وا خليلاه .
وكلامنا هنا على النداء المتضمن طلب غوث من الأموات ونحوهم . بل وحتى خطاب الجماد ليس شركاً على إطلاقه ، فهذا عمر يخاطب الحجر الأسود ولا يستغيث به ، ففي الصحيحين من حديث حابس بن أبي ربيعة قول عمر للحجر الأسود [ إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك ] . ومن ذلك ما ينسب إلى خالد بن الوليد في هدمه للعزى في قوله :
يا عز كفرانك لا سبحانكإني رأيت الله قد أهانك
أما الجواب عن خبر أهل القليب فليس فيه دليل لهم ، فبعضهم اعتبر ذلك الخطاب معجزة له -صلى الله عليه وسلم- وخرقاً للعادة ومن هؤلاء ابن عطية والسهيلي والألوسي ، وعلى ذلك فلا يجوز القياس على الخوارق ، وعليه فقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم فقال : (( هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً )) فقال بعض الصحابة : أتخاطب أقواماً وقد جيفوا . وفي رواية : وهل يسمعون ؟ فقال : (( يسمعون كما تسمعون ولكن لا يجيبون )) . فهذا الأثر ليس فيه طلب غوث منهم ، وهل يعقل أن يستغيث رسول -صلى الله عليه وسلم- بهم ؟! وإنما فيه توجـه الخطاب إليهم مع علمه -صلى الله عليه وسلم- أنهم لن يردوا عليه كما قال : (( لا يجيبون )) وقد يكون إنما قال ذلك تبكيتاً لهم وإسماعاً لهم الخزي الذي وعدوا به إن ماتوا على كفرهم وتذكيراً لهم بما فعلوه ، فإن أهل النار يذكرهم الله ما اقترفوا ومما يدل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لهم أيضاً (( بئس العشيرة أنتم التي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وخذلتموني ونصرني الناس وأخرجتموني وآواني الناس )) وقد روى البخاري عن قتادة (( أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً )) ، وقد يكون هذا الخطاب أيضاً لغيرهم من الأحياء حتى يعتبروا ويتعظوا ، فأما الميت فلن ينتفع بذلك الخطاب . وكون الخطاب يقع للغير ويراد به غيره معروف قال الحافظ في الفتح عند حديث (( إن العين تدمع وإن القلب يحزن ولا نقول إلا مايرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون )) : [ وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك ، وكل منهما مأخوذ من مخالطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولده ، في تلك الحالة لم يكن يفهم الخطاب بوجهين : أحدهما صغره والثاني نزعه( أي نزع الروح ) وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين ، إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق ( أي النياحة ) ] < راجع صيانة الإنسان ص 288 > .
وأما حديث السلام عليه في التشهد ، فالذي يستدل به على تجويز الاستغاثة الشركية من أجهل الناس وأبعدهم عن العلم ، أفلا يعلم هذا المستدل الأبكم أن سلام أمته يبلغهم كما رواه النسائي وأبو حاتم في صحيحه .
وأما السلام عليه في المقابر ففيه السلام عليهم لا طلب غوث منهم . قال الإمام ابن القيم في الزاد عن هديه -صلى الله عليه وسلم- في زيارة القبور : [ وأمرهمأن يقولوا إذا زاروها (( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية )) وكان هديه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة عليه والدعاء والترحم والاستغفار ، فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإقسام على الله به وسؤال الحوائج والاستعانة به والتوجه إليه ، بعكس هديه -صلى الله عليه وسلم- فإنه هدي التوحيد والإحسان إلى الميت ، وهدي هؤلاء شرك إساءة إلى نفوسهم وإلى الميت ] .
( 15 ) ومن جملة شبههم قولهم : [ إن الأحياء والأموات متساوون ، في أنهما لا تأثير لهما في شيء من الخلق والإيجاد والإعدام والنفع والضر وهو لله وحده ، وإن من منع دعاء الأموات دون الأحياء واعتقد أن الحي قادر على فعل الشيء الذي يطلب منه وإن الميت عاجز لا قدرة له ، فقد اعتقد أن العبد يخلق فعله ، وهو اعتقاد فاسد ومذهب باطل ] .
والجواب عليه من وجوه :
الأول : إنه يعتقد كثير من العوام والخواص ، أن أهل القبو رممن يعتقدون فيهم أنهم أولياء قادرون على ما لا يقدر عليه إلا الله ، وقد مرت بك بعض أقوالهم .
الثاني : إن مجرد اعتقاد الخلق والإيجاد والاعدام والضر والنفع لله وحده لا يبرئ من الشرك ، فالإنسان قد يكفـر بكلمة واحدة مع اعتقاده أن الله هو الخالق و الرازق والمدبر والمحيي والمميت ، وقد تقدم إيضاحه .
الثالث : كون الأحياء والأموات لا يخلقون شيئاً ، وليس لهم إيجاد ولا عدم ، لا يقتضي أن يكون الأحياء والأموات متساوون في جميع الأحكام ، فالأدلة الشرعية طافحة في التفريق بين الحي والميت ، وأن الحي له قدرة على بعض الأشياء ، وأنه مخاطب ببعض الأمور ووجوب التكليف .
] لا يكلف الله نفساً إلا وسعها [] وان سعيكم لشتى [] فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً [ .
وروى مسلم : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : .. )) فذكرها .
وحديث البخــاري عن عمران بن حصين ، قول الرســول -صلى الله عليه وسلم- : (( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً .. )) .
فهذه النصوص دالة على أن العبد الحي له قدرة على بعض الأشياء ، فلفظ ؛ الوسع ، والاستطاعة ، والمشيئة ، وعدم انقطاع العمل إلا بعد الموت ، وسلب العجز ، مما يستلـــزم اثبات القدرة للحي ، وهو المطلوب .
رابعاً : كون الحي له قدرة على بعض الأشياء دون الميت ، لا يستلزم ذلك اعتقاد أن العبد يخلق أفعال نفسه .
خامساً : تقريرهم أن التسوية بين الحي والميت ، يفيد أن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الحي لا يقدر على فعل شيء كالميت ، فكأنهم يعتقدون عقيدة الجبر ، وأن العبد ليس له اختيار الكسب ، وهو مذهب باطــل ، والدليل على أن هذا اعتقادهم قولهم : [ إنه إذا نودي الميت ، وطلب منه شيء فلا ضرر في ذلك ، كما أن الحي إذا نودي بشيء لا ضرر فيه ] .
سادساً : إن اثبات الكسب ولو باطنياً للميت مخالف للنص الصريح في قوله -صلى الله عليه وسلم- (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث .. )) .
وقدرة الحي على الكسب يعلم حدّها بالمشاهدة ، مثل حمل الحجر .
وأما قدرة الميت على الكسب فعلى تقدير تسليمها لا نعلم حدها ، فما طريق العلم بها ؟ وهل هي مساوية لقدرة الحي أو زائدة أو ناقصة عنها ؟ فلا بد من بيانه حتى يطلب منه على حسبه ، ودونه لا معنى لهذه الدعوة العمياء .< نقلاً عن صيانة الإنسان ص 21.،329-345 بتصرف > .
سابعاً : إن الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه قد ثبت الكتاب والسنة جوازها ، وأما الاستغاثة الشركيـة بالأموات وغيرهم ففيها اتخاذ وسائط كوسائط المشركين فتعيّن أنها كفر وشرك ، وقد مر تحريره .
( 16 ) ومما يتمسكون به شبه المجاز ، فيقولون : [ إن المستغاث به في الحقيقة هو الله ، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو واسطة بينه وبين المستغيث به ، فهو سبحانه مستغاث به حقيقة ، والغوث منه بالخلق والإيجاد ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- والولي مستغاث به مجازاً ، وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد الشيء لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي ولا سبيل إلى تكفير أحد من المؤمنين ] .
والجواب عنه من وجوه :
الأول :إنهم يعترفون أن هؤلاء المدعوين وسائط ، وقد تقدم تقرير أن اتخاذها كذلك شرك أكبر يخرج من الملة .
الثاني : إن منهم من صرّح بلسانه : إن هذه الوسائط تنفع وتضر وترحم وتغفر . ويصرفون لهم أنواعاً من العبادات ، وقد تقدم بيانه .
الثالث : إن في ذلك القول إبطالاً لحد الردة ، فلو أن رجلاً يقول لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، ثم يقول : إن أبي خلق عيني ووهبني أذناً ويداً وشعراً . هل يتردد في كفر هذا القائل ؟ أم أنه يحمل على المجاز العقلي ، بحجة أنه ينطق بكلمة التوحيد ؟ أما ينظر هذا القائل المغرور أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أنكر على ما هو أدنى من ذلك وسماه شركاً حينما قال له رجل : ما شاء الله وشئت . فقال (( أجعلتني لله نداً )) . وقال -صلى الله عليه وسلم- (( من حلف بغير الله فقد أشرك )) وهذا وإن كان شركاً أصغراً لكنه قد يصير أكبراً ، فما بالك بقول هؤلاء : أغثني يا عيدروس ، واشف مريضي يا ابن علوان .. وغير ذلك .
الرابع : إن قولهم : إذا وجد في كلام المؤمنين إسناد الشيء لغير الله يجب حمله على المجاز العقلي .
فهذا الكلام بعمومه فاسد ، فإن المؤمنين يقولون أكلنا وشربنا وباشرنا أزواجنا وصلينا وصمنا ، ففي هذه الأقوال إسناد لشيء لغير الله ، ولا يصح حمله على المجاز العقلي ، فضلاً عن الوجوب .
الخامس :إنه لو كان مناط الإسناد الحقيقي اعتبار الخلق والإيجاد كما يتوهمه هؤلاء لزم أن يكون إسناد أفعال العباد كلها لله تعالى حقيقة ، فيقتضي ذلك أن يتصف الله بالصلاة والصيام والمباشرة والأكل والشرب ، ولا قائل به ، والتزام ما سبق هو فعل من لا عقل له ولا دين .
السادس : إنه لو كان مناط الإسناد المجازي اعتبار التسبب والتكسب لزم أن لا يكون إنسان حقيقة مؤمناً ولا كافراً ولا براً ولا فاجراً ولا مجاهداً ولا زانياً ولا سارقاً ، فيبطل الجزاء والحساب ، وتلغى الجنة والنار ، وهذا لا يقوله أحد من المسلمين .
السابع : إن كون النبي أو الولي سبباً للغوث وكاسباً له ، محتاجاً إلى إقامة الدليل ، ودونه لا تسمع ، وبالجملة فهذه الشبهة داحضــة ووسوسة زاهقـة تنادي بأعلى نداء على صاحبها بالجهل والسفه . < راجع صيانة الإنسان ص 222 ، 38 >.
الثامن : القول إن هذا مجاز فقد اختلف العلماء في وقوع المجاز أصلاً في اللغة وفي القرآن ، فنفاه جماعة من العلماء وأثبته جماعة .
وعلى القول بوروده فقد أنكر أيضاً جماعة من العلماء نوعاً من المجاز وهو المجاز العقلي مثل السكاكي وهو من أئمة البلاغة .
وعلى القـول بوروده في اللغة فهل مثل هذه الألفاظ : أغثني واشفني .. ونحوها يجوز حملها على المجاز ؟ فمن أين لكم اثبات ذلك عن أحد من أئمة البيان ، وعلى فرض أن قال أحد أئمة البلاغة والبيان إن ذلك من المجاز العقلي لكان قوله مردود ،لما علمت أن اتخاذ الوسائط قربة إلى الله من الشرك الأكبر المبين الذي لا يتناطح فيه كبشان . ولو جاز أن يكون هذا القول من مجاز اللغة لكان التلفظ بمثله منكر وكفر لأن الشرع قد منع منه ونهى عنه وجعل تعاطيه كفراً . وكانت العرب تتكلم بألفظ ألفتها واعتادت عليها فنهى عنها . وما نحن فيه أعظم .
( 17 ) شبهة أختم بها باب الشبه ، وهي [ إنه قد علمنا أنه لن يكون شرك في جزيرة العرب لما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (( إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم )) ] .
الجواب عن هذا الجهل من وجوه منها :
إن الشيطان يئس بنفسه لما رأى منعة الإسلام وقوته ونصرته في الجزيرة ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، فدخله اليأس أن يعودوا إلى الشرك والكفر . والشيطان خلق من خلق الله ييئس ويقنط ومثل ذلك كمثل عدو أراد غزو بلدة فلما رأى قوة جيش تلك البلدة ومنعتهم يئس من دخولها ، ثم لما ضعفت قوتهم وتفرقت كلمتهم تجدد عزمه وذهب يأسه فعاد إلى البلدة فدخلها ، وهكذا الشيطان .
ومما يدل على ذلك قول الله تعالى عن الكفار ] اليوم يئس الذين كفروا من دينكم [ .
والسؤال : هل استمر يأس الكفار من ديننا إلى يومنا هذا ؟
الجواب : بل شمروا عن سواعدهم بعد ذلك وها هم اليوم أشد خطراً من كفار الأمس وأخبث منهم .
ثم يا ترى ماذا يقال عن حروب الردة ، وماذا عن الفكر الماركسي الإلحادي الذي حدث بالأمس في جنوب الجزيرة؟أم أننا سنقول إن كل ذلك ليس بكفر بحجة أنه حدث في جزيرة العرب إستناداً إلى الحديث المذكور .
وتناسى هؤلاء أيضاً الأحاديث المنصوص عليها بحدوث الشرك في جزيرة العرب .
فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعاً : (( لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة )) وذو الخلصة صنم لأهل دوس ، ودوس في أعالي اليمن .
وهكذا تتساقط شبههم واحدة بعد واحدة ، ونحن وإن لم نتعرض لكل الشبه إما لوضوح فسادها أو لإندراجها تحت ما ذكرنا ، فإننا لو استقصيناها لطال بنا المقـام ولكن يكفيـك ما قدمته لك من الأصول التي يرد بها عليهم إجمالاً ، فإنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا إثبات شركهم ، وكيف لهم إثباته وقد جاء الإسلام بحربه . كما أنهم لن يستطيعوا إثبات حرف واحد في ذلك عن صالح سلف هذه الأمة .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : [ ولا يستطيع أحد أن ينقل عن أحد من الصحابة ولا عن السلف أنهم بعد موته طلبوا منه اغاثة ولا نصراً ولا إعانة ولا استسقوا بقبره ولا استنصروا به كما كانوا يفعلون ذلك في حياته ، ولا فعل ذلك أحد من أهل الإيمان ، وإنما يحكى مثل ذلك عن أقوام جهّال أتوا قبره فسألوه بعض الأطعمة واستنصروه على بعض الظلمة ] < راجع مختصر كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري ص 2..-2.1 ت؛عجال > .
قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان : [ إن صنيع القبوريين مفارق لما كان عليه سلف الأمة . وهل يمكن لبشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم ( أي من السلف ) بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها ، فضلاً أن يصلوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها أو يسألوهم حوائجهم . فليوقفونا على أثر واحد أو حـرف واحد في ذلك ] .
< راجع مجلة البيان العدد 132 ص 51 > .
الإجماع على كفر من استغاث بالأموات
وقبل الخاتمة أذكر أقوال العلماء الذين نقلوا الإجماع أو أفتوا بكفر من استغاث بالأموات . فمن هؤلاء :
شيخ الإسلام ابن تيميه : [ قال : ( من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً ). ونقله عنه غير واحد مقرّين له ، منهم : ابن مفلح في الفروع ، وصاحب الإنصاف ، وصاحب الغاية ، وصاحـب الإقناع ، وشارحه ، وغيرهم ] < راجع تيسير العزيز الحميد ص 229 >
وكلام شيخ الإسلام ابن تيميه في نقله الإجمـاع على ذلك في عدة كتب له ، منها : الجواب الباهر ، ورده على البكري ، وغير ذلك .
ومنهم الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في عامة كتبه .
قال الإمام محمد بن علي الشوكاني في رده على القبوريين المستغيثين بالأموات :
[ فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك ، وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على ذلك وحكوا عليه الإجماع ] < راجع الصيانةص 171 > .
وممن أفتى بكفرهم أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي ، والحافظ المقريزي ، وابن النحّاس الشافعي ، وابن القيم ، والحافظ ابن عبد الهادي ، والشيخ صنع الله الحبلي الحنفي .< راجع تيسير العزيز ص 227 > .
وممن حكم بكفرهم الإمام البكري الشافعي ، وابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين ، والألوسي صاحب التفسير ، ومحمد بشير السهسواني ، وعالم مصر محمد رشيد رضا ، والشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، وغير هؤلاء كثير .
الخاتمة
فجدير بالعاقل البصير أن يرجع عن هذا الشرك المبين الذي وقع في أعماقه وتدنس برجسه كثير ممن ينتسب إلى الإسلام في مشارق الأرض أو مغاربها .
فكل طائفة من هؤلاء قد انتدبت لها قبراً خاصاً حتى صار في البلد الواحد عدة قبور تُعبد من دون الله ، إنها لصورة مقلقة ومزعجة ومخيفة أن يبقى الأمر على وضعه .
قال المنفلوطي في كتابه النظرات : [ أي قلب يستطيع أن يستقر بين جنبي صاحبه ساعة واحدة ، فلا يطير جزعاً حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكاً بالله ، وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات . لِمَ ينقم المسلمون التثليث في المسيحيين ؟ لِمَ يحملون في صدورهم تلك الموجدة وذلك الضغن ؟ علام يحاربونهم ؟ وفيما يقاتلونهم وهم لم يبلغوا من الشرك بالله مبلغهم ؟ ولم يغرقوا فيه إغراقهم بدين ، المسيحيون بآلهة ثلاثة ولكنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد وبعده عن العقل ، فيتأولون فيه ويقولون إن الثلاثة في حكم الواحد . أما المسلمون فيدينون بآلاف من الآلهة أكثرها جذوع أشجار وجثث موتى وقطع أشجار من حيث لا يشعرون ] .
وقال قبل ذلك : [ فأي عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع فلا تريقها أمام هذا المنظر المؤثر المحزن ، منظر أولئك المسلمين وهم ركّع سجّد على أعتاب قبر ] .
وقال أيضاً : [ والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهناءتها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد ، وإن طلوع الشمس من مغربها ، وانصباب ماء النهر من منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين يدي الله ويقولون للأول ما يقولون للثاني : أنت المتصرّف في الكائنات ، وأنت سيد الأرض والسموات ] .
فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف .
وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين
تاريخ الاضافة: 28-08-2008 12:50
http://www.ahdal.net/print.php?id=76
ويجاب عنه بمثل ما ذكرنا في الحديثين السابقين وهذا تقدير ثبوت إسناده لكنه لم يصح فقد أخرجه القاضي اسماعيل في فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلا عن بكر بن عبد الله المزني ن والمرسل من أقسام الضعيف ورواه أيضاً : البزار بلفظ (( إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام . قال : وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حياتي خير لكم … فذكر الحديث )) . قال : " البزار لا نعلمه يروى عن عبد الله ( ابن مسعود )إلا بهذا الاسناد " .
وهذا اسناد فيه عبد المجيد بن أبي رواد وهو ممن لم يقبل ما ينفرد به عندهم ولذا قال العراقي في< تخريج الإحياء ج4/128 > [ رجاله رجال الصحيح إلا أن عبد المجيد وإن أخرج له مسلم ووثقهابن معين والنسائي فقد ضعفه بعضهم ] .
وأول الحديث : (( إن لله ملائكة …. )) محفوظ من حديث سفيان عن عبد الله بن السائب به . واتفق رواة الحديث عن سفيان على هذا القدر ثم أتى عبد المجيد فتفرد عنه بزيادة (( حياتي خير لكم … )) فهذه شاذة ضعيفة لتفرده واغتر بعضهم لقول الهيثمي في مجمعه بعد ذكر رواية البزار : رجاله رجال الصحيح ، ففهم منها أن الحديث صحيح وهذا جهل وقصور بألفاظ المحدثين ، فإن هذه العبارة لا تعني صحة الحديث عندهم ، وإن ذكر العراقي في طرح التثريب ليس فيه مخالفة لقوله فإن إسناده جيد هو معناه دون الصحيح ، وعبارته المتقدمة يعني بها أنه ليس من رجال الصحيح المتفق على إتقانهم بل هو دون ذلك إلى الحسن أقرب .
< راجع سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم " 975 وكتاب هذه مفاهيمنا ص86 وما بعدها >
الذي يظهر أن الحديث يتقوى بالمرسل السابق ، وهذه زيادة ثقة صحح مخرجها ، وليس فيها معارضة والله أعلم .
(8) ومن شبههم قولهم : إن هؤلاء المانعين الاستغاثة عمدوا إلى الآيات القرآنية التي نزلت في شأن الكفار والمشركين فحملوها على الخواص والعوام من المؤمنين وذهبوا يحتجون بها على منع الاستغاثة ويكفرون الأمة كالخوارج .
والجواب عن ذلك :
أولاً : إن نزول جميع الآيات في هذا الموضوع في المشركين غير مسلم به ألا ترى أن الله تعالى يقول : ] وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا [ والمخاطب فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : قتادة عند هذه الآية كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يوحده وحده ومن ذلك أيضاً قوله تعالى ] فلا تدع مع الله إله آخر فتكون من المعذبين [ فأمره بعبادته وحده مع أنه -صلى الله عليه وسلم- معصوم من الشرك ومنـزه عنه . وقال عن المرسلين ] ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [ . وقال عن سيدهم -صلى الله عليه وسلم- ] لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ .
وبالجملة كفى بتلك الآيات حجة على منع دعاء غير الله سواء قيل إنها نزلت في المشركين وغيرهم .
ثانياً : أنه لو سلم أن هذه الآيات نزلت في المشركين فألفاظها عامة كقوله تعالى ] والذين يدعون من دونه [ وقوله ] من يدعوا من دون الله [ وقد تقرر في محله أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولو خصصت الآيات بما نزلت فيه لبطل معظم أحكام الإسلام . راجع الصيانة ص428.
فالله تعالى لما حرم الشرك وشعبه لم يكن ذلك خاصا بالمشركين فحسب فهذا أبو واقد الليثي رضي الله عنه قال [ خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسى] اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون [ لتركبن سنن من كان قبلكم ] < رواه أحمدوالترمذي وصححه > فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنكر عليهم بما ذكر .
(9)- ومن شبههم أنه قد جاء الحديث المرفوع (( إن لله خلقا خلقهم لحوائج الناس يفزع إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله )) ووجه الاستدلال أن الذين يفزع إليهمقد جاء ذكرهم لفظاً منكراً [ خلقاً ] فيشمل الأحياء والأموات .
والجواب عن ذلك : إن هذا الحديث رواه الطبراني وابن عدي قال : الهيتمي في المجمع " وأحمدابن طارق الراوي عنه لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح " ج8/192 . ورواه ابن عساكروابن عدي في الكامل وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه وهذا اسناد ضعيف جدا وإن قيل بوضعه كان متجهاً لأن عبد الرحمن حدث عن أبيه بموضوعات كما قال الحاكم وغيره والراوي عنه عبد الله ابن إبراهيم من الضعفاء . < راجع هذه مفاهيمنا ص166-167 > .
ولو صح لوجب حمله على الأحياء الحاضرين فيما يقدرون عليه لا الأموات والغائبين لما تقدم تحريره .
(1.)-ومن شبههم ما ذكره البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب : يزفون النسلان . من قول هاجر في قصتها الطويلة حينما ذهب عنها الخليل وتركها وابنها فلما عطشا قامت تنظر وتذهب بين الصفا والمروة سبع مرات فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صهٍ ( تريد نفسها ) ثم تسمعت أيضا فقالت : قد أسمعتَ إن كان عندك غِواث ، وفي رواية : أغث إن كان عندك خير فإذا بالملك [ جبريل ] عند موضع زمزم .. الحديث .
والجواب عن ذلك : أن كلامنا إنما هو عن الاستغاثة بالأموات والغائبين وهاجر إنما استغاثت بحاضر سمعت صوته فثبت أن إيراد مثل هذا الحديث في مثل هذا الموضع في غير محل النزاع فلا يلتفت إليه . كما أن هذا الحديث لا يدل على مشروعية الاستغاثة بالملائكة مطلقا فإن هاجر لم تستغث به ابتداءإلا بعد حضوره وسماعها صوته .
(11)- ومن شبههم قولهم : إن سؤال الغائب حيا وميتا كسؤال المشاهد فإن الأنبياء والأولياء يسمعون خطاب الغائب البعيد ويسمع أحدهم خطاب البعيدين له .
فالجواب : أصل تلك الدعـوى مردود . فمن أين لكم اثبات أن سؤال الغائب والميت كسؤال المشاهد ؟ ومن أين لكم إثبات أن الميت يسمـع مطلق الخطاب ؟ ومثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يسمع له ، ومن ادعى تلك الدعوى فقد جعل لهم سمعا مطلقا مضاهاة لله عز وجلّ وكفى به شركا وكفراً .
ثم قياس الميت على الحي في ذلك باطل فإن الحي نفسه سمعه محدود لا يسمع خطاب البعيد .ثم لو صح أنهم يسمعون نداء القريب والبعيد فلا يعني ذلك مشروعية سؤالهم والاستغاثة بهم فإن هذا يحتاج إلى دليل آخر لإثباته وأنى لهم ذلك ؟ .
فإن قال قائل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة إنه يسمع الخطاب القريب والبعيد وعليه تشرع الاستغاثة به ! والجواب عن ذلك : أنه ليس في هذا حديث معروف يدل على التسوية بين القريب والبعيد في شيء من خطابه بل الحديث يدل على نقيض ذلك فعند أبي داود وغيره من حديث أوس بن أوس قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (( إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي )) قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ قال : يقولون بليت . قال : (( إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )) .
وبما أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة قال : رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (( لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) وحديث النسائي عن ابن مسعود مرفوعاً : (( إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام )) .
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : (( ما من أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أرد السلام )) .
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن الصلاة والسلام يعرضان عليه وأنه يسمع صلاة وسلام القريب ويبلغ سلام البعيد لا نه يسمع ذلك من المصلي والمسلم وإذا لم يسمع الصلاة والسلام من البعيدإلا بواسطة فإنه لا يسمع صلاة الغائب واستغاثته بطريق الأولى والأحرى ، والنص إنما يدل على أن الملائكة تبلغه الصلاة والسلام ولم يدل على أنه يبلغه غير ذلك .والحديث الذي فيه ما من رجل يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أرد عليه } فهم منه العلماء السلام عند قبره خاصة ولا يدل على البعيد لما ذكر آنفا أن الملائكة تبلغة الصلاة والسلام ولو كان يسمع الخطاب بنفسه لم يحتج إلى واسطة فوجب حمله على البعيد < نقلا عن تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكريص95-1.8 و 25.-257 . بتصرف . تحقيق : عجال > .
ثم لو صح سماعه -صلى الله عليه وسلم-الصلاة والسلام من البعيد والقريب فليس فيه دلالة على مشروعية طلب الغوث من ولا تلازم بينها كما تقدم .
(12)-ومن جملة شبههم قالوا أنتم المانعون من الاستغاثة بالأموات والغائبين تستدلون بمثل قوله تعالى] إياك نعبد وإياك نستعين [ وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ))فأنتم بذلك أيها المانعون آخذون ببعض النصوص وتاركون لبعضها فإنه قد جاء ما يدل على مشروعية الإستعانة بمثل قوله تعالى ] وتعانوا على البر والتقوى [ وبقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- (( والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )) وتوفيقاً بين هذه النصوص يكون الجمع بينها إذا سألت فاسأل الله أولا . فسؤالك لله أولا وسؤالك لغيره واستغاثتك بغيره ثانياً .
والرد على ذلك من وجوه :
أولاً : نحن لم نستدل على منع تلك الاستغاثة الشركية بتلك الآية وذلك الحديث فحسب . بل بغيرهما أيضاً من النصوص القطعية الدالة قطعاً على كفر من استغاث بالأموات والغائبين .
ثانياً : إننا لا نقول إن الإستغاثة والاستعانة على اطلاقهما شرك بل منها الشرك ومنها غير ذلك وقد تقدم بيان ذلك في أول هذا المبحث .
ثالثاً : إن المعترض أراد أن يوفق بين النصوص ولا خبرة له بها ولا بطرق الجمع بينها ولا معرفة له بدلائلها فإن الاستعانة بقوله تعالى ] إياك نعبد وإياك نستعين [ وكذا في قوله -صلى الله عليه وسلم- (( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله )) تختلف عن الاستعانة في قوله تعالى ] وتعانوا على البر والتقوى [ وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- (( والله في عون العبد … )) الحديث . فالأولى استعانة لا تطلب إلا من الله وحده ولذلك قدم المعمول عل العامل المفيد للحصر وهذه الاستعانة هي الاستعانة منه تعالى على عبادته وحده وهي تعني التوكل عليه والتبرؤ من الحول والقوة قال ابن كثير عند تفسيره لـ ] إياك نعبد وإياك نستعين [ : [ فالأول تبرؤ من الشرك والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجلّ وهذا المعنى في غير آية في القرآن كما قال تعالى ] فاعبده وتوكل عليه [] قل هو الرحمن آمنا به وعليه وكلنا [ ] .
وقال الإمام ابن القيم عند تفسيره للآية : [ وهذان أصلان وهما التوكل والعبادة قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع قرن بينها فيهما هذا أحدهما ثم ذكر خمسة مواضع جاءت فيها العبادة مقرونة بالتوكل ]. < راجع التفسير القيم ص66 > .
فمعنى الاستعانة هنا هي التوكل والاعتماد عليه سبحانه وحده دون سواه ومثل ذلك حديثابن عباس : (( إذا سألت فاسأل الله …. )) قال ابن دقيق العيد في شرح الحديث : [ أرشده إلى التوكل على مولاه أن لا يتخذ رباً سواه ولا يتعلق بغيره في جميع أموره ما قلّ منها وما كثر وقال تعالى ] ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ ] . وقال ابن رجب في شرحه للحديث :[ وقوله -صلى الله عليه وسلم-(( إذا سألت فأسأل الله … )) منتزع من قوله ] إياك نعبد وإياك نستعين [ فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه والدعاء هو العبادة ] فأنت كما ترى أن الإستعانة في الآية والحديث إنما تتعلق بالتوحيد والعبادة فلا يجوز إذن صرفها لغير الله تعالى ولا طلبها إلا منه وحده .
وأما قوله تعالى ] وتعاونوا على البر والتقوى [ فقد قال ابن كثير في تفسيرها : [ يأمر الله عباده بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر وترك المنكرات وهو التقوى وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون عل المآثم والمحارم ] . فأين هذه من التوكل في الآية السابقة ( آية الفاتحة ) فغاية ما هنا أن الله أمرهم بالتعاون فيما يقدرون عليه من التكليف . ثم أن هذا أمر والأمر تكليف والتكليف خطاب للأحياء لا للأموات فلا يستدل بها على طلب العون من الأموات .
وأما حديث (( والله في عون العبد )) فمعناه أيضاً أن تعينه بقدر طاقتك وهذا ليس شركاً قال الإمام ابن دقيق العيد في شرح الحديث : [ هذا الإجمال لا يسع تفسيره إلا أن منه أن العبد إذا عزم على معاونة أخيه ينبغي له ألاّ يجبن عن إنفاذ قول أو صدع بحق إيماناً بأن الله في عونه ] فليس في الحديثما يدل على طلب الغوث من الميت والغائب وإنما فيه إعانة العبد لأخيه وهذه الإعانة لا تتحقق إلا في الحياة وبقدر الأسباب التي منحها الله إياها فلا يطلب منه أعظم من قدرته وإلا كان ذلك شركاً .
من خلال ما تقدم يتبين أولاً أن معنى الاستعانة في آية الفاتحة وحديث ابن عباس معناه التوكل فلا تصرف إلا لله وأما معناه في قوله] وتعاونوا على البر [ وحديث (( والله في عون العبد )) إعانة في حصول الخير ( وهذا من التكاليف المخاطب بها الأحياء دون الأموات باجماع المسلمين ) .
(13)- ومن شبههم مارواه أحمد وغيره من حديث الحارث بن حسان قال : [ خرجت أنا والعلاء بن الحضرمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-… الحديثوفيه فقلت أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد ]. قالوا : فإن فيه استعاذة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاستعاذة استغاثة فلو كانت شركا لأنكر عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والجواب عن ذلك :
أولا : أن هذه استعاذة حاضر بحاضر وهذا في غير موضع النـزاع ، والاستعاذة بالحاضر فيما يقدر عليه ليست كفراً .
ثانيا : أن الإمام أحمد قد روى هذا الحديث بهذا اللفظ عن زيد بن الحباب حدثه سلاّم عن عاصم عن أبي وائل عن الحارث بن حسان ورواه أيضاً عن عفان عن سلام عن عاصم عن أبي وائل عن الحارث بن حسان ولكن بلفظ أعوذ بالله أن أكون كوافد عاد دون ذكر [ برسوله ] ورواه أيضا الترمذي عن ابن أبي عمر حدثه سفيان بن عيينة عن سلام عن عاصم عن أبي وائل عن الحارث بن حسان بلفظ أعوذ بالله دون ذكر برسوله . فأنت ترى أن زيد بن الحباب قد خالف عفان وهو ابن مسلم الصفار وخالف سفيان بن عيينة . فزيد بن الحباب قال الحافظ عنه : [ صدوق ] . ولكنه قد خالف من هو أوثق منه ، فعفان بن مسلم قال فيه الحافظ : [ ثقة ثبت ] وقال في سفيان بن عيينة : [ إمام ثقة حجة ] وبهذا يكون زيد بن الحباب خالف ثقتان فإنه لو خالف أحدهما فقط لكان كافياً على الحكم على روايته بالشذوذ فما بالك بهما معاً ؟ وأيضاً فإن زيادة ( برسوله ) مخالفة لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- فيمن قال : ما شاء الله وشئت . فقال : (( أجعلتني لله نداً )) (( قل ما شاء الله وحده )) فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك التشريك اللفظي ومثله يقال في ( أعوذ بالله ورسوله ) .
وقد روى حديث الحارث أيضاً النسائي في الكبرى وابن ماجه وأحمد أيضاً في رواية أخرى ولكنها روايات مختصرة ليس فيها شيء من ذلك .
وأصل قصة وافد عاد صحيحة أو حسنة وإنما الكلام عن هذه اللفظة الشاذة فقط .
( 14 ) ومن جملة شبههم الخلط بين النداء الخالي من الطلب والنداء المتضمن طلب غوث ، فيقولون :[ لو كان كل نداء للأموات شركاً لما نادى -صلى الله عليه وسلم- أصحاب القليب في بدر وهو في الصحيح ، ولم يشرع التسليم عليه -صلى الله عليه وسلم- في التشهد ، وكذا التسليم على أهل المقابر . ونحو ذلك مما ورد السنة ] .
والجواب : ينبغي أن يعلم أولاً أننا لا نقول أن كل نداء للأموات شرك ، لأن النداء في أصل معناه هو الصوت كما في الصحاح ، ولكنه مع ذلك قد يتضمن طلباً ، قال في الصحـاح ( وناداه مناداة أي صاح به ) ولربما جاء النداء للندبة تقول : ندبت فلان إذا بكيت عليه وذكرت محاسنه ، ومن ذلك ما رواه البخاري في قول أبي بكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد موته : بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً .وقد تكون الندبة بلفظ ( وا ) فقد روى أحمد من قول أبي بكر أيضاً : وا نبياه وا صفياه وا خليلاه .
وكلامنا هنا على النداء المتضمن طلب غوث من الأموات ونحوهم . بل وحتى خطاب الجماد ليس شركاً على إطلاقه ، فهذا عمر يخاطب الحجر الأسود ولا يستغيث به ، ففي الصحيحين من حديث حابس بن أبي ربيعة قول عمر للحجر الأسود [ إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك ] . ومن ذلك ما ينسب إلى خالد بن الوليد في هدمه للعزى في قوله :
يا عز كفرانك لا سبحانكإني رأيت الله قد أهانك
أما الجواب عن خبر أهل القليب فليس فيه دليل لهم ، فبعضهم اعتبر ذلك الخطاب معجزة له -صلى الله عليه وسلم- وخرقاً للعادة ومن هؤلاء ابن عطية والسهيلي والألوسي ، وعلى ذلك فلا يجوز القياس على الخوارق ، وعليه فقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم فقال : (( هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً )) فقال بعض الصحابة : أتخاطب أقواماً وقد جيفوا . وفي رواية : وهل يسمعون ؟ فقال : (( يسمعون كما تسمعون ولكن لا يجيبون )) . فهذا الأثر ليس فيه طلب غوث منهم ، وهل يعقل أن يستغيث رسول -صلى الله عليه وسلم- بهم ؟! وإنما فيه توجـه الخطاب إليهم مع علمه -صلى الله عليه وسلم- أنهم لن يردوا عليه كما قال : (( لا يجيبون )) وقد يكون إنما قال ذلك تبكيتاً لهم وإسماعاً لهم الخزي الذي وعدوا به إن ماتوا على كفرهم وتذكيراً لهم بما فعلوه ، فإن أهل النار يذكرهم الله ما اقترفوا ومما يدل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لهم أيضاً (( بئس العشيرة أنتم التي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وخذلتموني ونصرني الناس وأخرجتموني وآواني الناس )) وقد روى البخاري عن قتادة (( أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً )) ، وقد يكون هذا الخطاب أيضاً لغيرهم من الأحياء حتى يعتبروا ويتعظوا ، فأما الميت فلن ينتفع بذلك الخطاب . وكون الخطاب يقع للغير ويراد به غيره معروف قال الحافظ في الفتح عند حديث (( إن العين تدمع وإن القلب يحزن ولا نقول إلا مايرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون )) : [ وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك ، وكل منهما مأخوذ من مخالطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولده ، في تلك الحالة لم يكن يفهم الخطاب بوجهين : أحدهما صغره والثاني نزعه( أي نزع الروح ) وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين ، إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق ( أي النياحة ) ] < راجع صيانة الإنسان ص 288 > .
وأما حديث السلام عليه في التشهد ، فالذي يستدل به على تجويز الاستغاثة الشركية من أجهل الناس وأبعدهم عن العلم ، أفلا يعلم هذا المستدل الأبكم أن سلام أمته يبلغهم كما رواه النسائي وأبو حاتم في صحيحه .
وأما السلام عليه في المقابر ففيه السلام عليهم لا طلب غوث منهم . قال الإمام ابن القيم في الزاد عن هديه -صلى الله عليه وسلم- في زيارة القبور : [ وأمرهمأن يقولوا إذا زاروها (( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية )) وكان هديه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة عليه والدعاء والترحم والاستغفار ، فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإقسام على الله به وسؤال الحوائج والاستعانة به والتوجه إليه ، بعكس هديه -صلى الله عليه وسلم- فإنه هدي التوحيد والإحسان إلى الميت ، وهدي هؤلاء شرك إساءة إلى نفوسهم وإلى الميت ] .
( 15 ) ومن جملة شبههم قولهم : [ إن الأحياء والأموات متساوون ، في أنهما لا تأثير لهما في شيء من الخلق والإيجاد والإعدام والنفع والضر وهو لله وحده ، وإن من منع دعاء الأموات دون الأحياء واعتقد أن الحي قادر على فعل الشيء الذي يطلب منه وإن الميت عاجز لا قدرة له ، فقد اعتقد أن العبد يخلق فعله ، وهو اعتقاد فاسد ومذهب باطل ] .
والجواب عليه من وجوه :
الأول : إنه يعتقد كثير من العوام والخواص ، أن أهل القبو رممن يعتقدون فيهم أنهم أولياء قادرون على ما لا يقدر عليه إلا الله ، وقد مرت بك بعض أقوالهم .
الثاني : إن مجرد اعتقاد الخلق والإيجاد والاعدام والضر والنفع لله وحده لا يبرئ من الشرك ، فالإنسان قد يكفـر بكلمة واحدة مع اعتقاده أن الله هو الخالق و الرازق والمدبر والمحيي والمميت ، وقد تقدم إيضاحه .
الثالث : كون الأحياء والأموات لا يخلقون شيئاً ، وليس لهم إيجاد ولا عدم ، لا يقتضي أن يكون الأحياء والأموات متساوون في جميع الأحكام ، فالأدلة الشرعية طافحة في التفريق بين الحي والميت ، وأن الحي له قدرة على بعض الأشياء ، وأنه مخاطب ببعض الأمور ووجوب التكليف .
] لا يكلف الله نفساً إلا وسعها [] وان سعيكم لشتى [] فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً [ .
وروى مسلم : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : .. )) فذكرها .
وحديث البخــاري عن عمران بن حصين ، قول الرســول -صلى الله عليه وسلم- : (( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً .. )) .
فهذه النصوص دالة على أن العبد الحي له قدرة على بعض الأشياء ، فلفظ ؛ الوسع ، والاستطاعة ، والمشيئة ، وعدم انقطاع العمل إلا بعد الموت ، وسلب العجز ، مما يستلـــزم اثبات القدرة للحي ، وهو المطلوب .
رابعاً : كون الحي له قدرة على بعض الأشياء دون الميت ، لا يستلزم ذلك اعتقاد أن العبد يخلق أفعال نفسه .
خامساً : تقريرهم أن التسوية بين الحي والميت ، يفيد أن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الحي لا يقدر على فعل شيء كالميت ، فكأنهم يعتقدون عقيدة الجبر ، وأن العبد ليس له اختيار الكسب ، وهو مذهب باطــل ، والدليل على أن هذا اعتقادهم قولهم : [ إنه إذا نودي الميت ، وطلب منه شيء فلا ضرر في ذلك ، كما أن الحي إذا نودي بشيء لا ضرر فيه ] .
سادساً : إن اثبات الكسب ولو باطنياً للميت مخالف للنص الصريح في قوله -صلى الله عليه وسلم- (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث .. )) .
وقدرة الحي على الكسب يعلم حدّها بالمشاهدة ، مثل حمل الحجر .
وأما قدرة الميت على الكسب فعلى تقدير تسليمها لا نعلم حدها ، فما طريق العلم بها ؟ وهل هي مساوية لقدرة الحي أو زائدة أو ناقصة عنها ؟ فلا بد من بيانه حتى يطلب منه على حسبه ، ودونه لا معنى لهذه الدعوة العمياء .< نقلاً عن صيانة الإنسان ص 21.،329-345 بتصرف > .
سابعاً : إن الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه قد ثبت الكتاب والسنة جوازها ، وأما الاستغاثة الشركيـة بالأموات وغيرهم ففيها اتخاذ وسائط كوسائط المشركين فتعيّن أنها كفر وشرك ، وقد مر تحريره .
( 16 ) ومما يتمسكون به شبه المجاز ، فيقولون : [ إن المستغاث به في الحقيقة هو الله ، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو واسطة بينه وبين المستغيث به ، فهو سبحانه مستغاث به حقيقة ، والغوث منه بالخلق والإيجاد ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- والولي مستغاث به مجازاً ، وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد الشيء لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي ولا سبيل إلى تكفير أحد من المؤمنين ] .
والجواب عنه من وجوه :
الأول :إنهم يعترفون أن هؤلاء المدعوين وسائط ، وقد تقدم تقرير أن اتخاذها كذلك شرك أكبر يخرج من الملة .
الثاني : إن منهم من صرّح بلسانه : إن هذه الوسائط تنفع وتضر وترحم وتغفر . ويصرفون لهم أنواعاً من العبادات ، وقد تقدم بيانه .
الثالث : إن في ذلك القول إبطالاً لحد الردة ، فلو أن رجلاً يقول لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، ثم يقول : إن أبي خلق عيني ووهبني أذناً ويداً وشعراً . هل يتردد في كفر هذا القائل ؟ أم أنه يحمل على المجاز العقلي ، بحجة أنه ينطق بكلمة التوحيد ؟ أما ينظر هذا القائل المغرور أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أنكر على ما هو أدنى من ذلك وسماه شركاً حينما قال له رجل : ما شاء الله وشئت . فقال (( أجعلتني لله نداً )) . وقال -صلى الله عليه وسلم- (( من حلف بغير الله فقد أشرك )) وهذا وإن كان شركاً أصغراً لكنه قد يصير أكبراً ، فما بالك بقول هؤلاء : أغثني يا عيدروس ، واشف مريضي يا ابن علوان .. وغير ذلك .
الرابع : إن قولهم : إذا وجد في كلام المؤمنين إسناد الشيء لغير الله يجب حمله على المجاز العقلي .
فهذا الكلام بعمومه فاسد ، فإن المؤمنين يقولون أكلنا وشربنا وباشرنا أزواجنا وصلينا وصمنا ، ففي هذه الأقوال إسناد لشيء لغير الله ، ولا يصح حمله على المجاز العقلي ، فضلاً عن الوجوب .
الخامس :إنه لو كان مناط الإسناد الحقيقي اعتبار الخلق والإيجاد كما يتوهمه هؤلاء لزم أن يكون إسناد أفعال العباد كلها لله تعالى حقيقة ، فيقتضي ذلك أن يتصف الله بالصلاة والصيام والمباشرة والأكل والشرب ، ولا قائل به ، والتزام ما سبق هو فعل من لا عقل له ولا دين .
السادس : إنه لو كان مناط الإسناد المجازي اعتبار التسبب والتكسب لزم أن لا يكون إنسان حقيقة مؤمناً ولا كافراً ولا براً ولا فاجراً ولا مجاهداً ولا زانياً ولا سارقاً ، فيبطل الجزاء والحساب ، وتلغى الجنة والنار ، وهذا لا يقوله أحد من المسلمين .
السابع : إن كون النبي أو الولي سبباً للغوث وكاسباً له ، محتاجاً إلى إقامة الدليل ، ودونه لا تسمع ، وبالجملة فهذه الشبهة داحضــة ووسوسة زاهقـة تنادي بأعلى نداء على صاحبها بالجهل والسفه . < راجع صيانة الإنسان ص 222 ، 38 >.
الثامن : القول إن هذا مجاز فقد اختلف العلماء في وقوع المجاز أصلاً في اللغة وفي القرآن ، فنفاه جماعة من العلماء وأثبته جماعة .
وعلى القول بوروده فقد أنكر أيضاً جماعة من العلماء نوعاً من المجاز وهو المجاز العقلي مثل السكاكي وهو من أئمة البلاغة .
وعلى القـول بوروده في اللغة فهل مثل هذه الألفاظ : أغثني واشفني .. ونحوها يجوز حملها على المجاز ؟ فمن أين لكم اثبات ذلك عن أحد من أئمة البيان ، وعلى فرض أن قال أحد أئمة البلاغة والبيان إن ذلك من المجاز العقلي لكان قوله مردود ،لما علمت أن اتخاذ الوسائط قربة إلى الله من الشرك الأكبر المبين الذي لا يتناطح فيه كبشان . ولو جاز أن يكون هذا القول من مجاز اللغة لكان التلفظ بمثله منكر وكفر لأن الشرع قد منع منه ونهى عنه وجعل تعاطيه كفراً . وكانت العرب تتكلم بألفظ ألفتها واعتادت عليها فنهى عنها . وما نحن فيه أعظم .
( 17 ) شبهة أختم بها باب الشبه ، وهي [ إنه قد علمنا أنه لن يكون شرك في جزيرة العرب لما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (( إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم )) ] .
الجواب عن هذا الجهل من وجوه منها :
إن الشيطان يئس بنفسه لما رأى منعة الإسلام وقوته ونصرته في الجزيرة ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، فدخله اليأس أن يعودوا إلى الشرك والكفر . والشيطان خلق من خلق الله ييئس ويقنط ومثل ذلك كمثل عدو أراد غزو بلدة فلما رأى قوة جيش تلك البلدة ومنعتهم يئس من دخولها ، ثم لما ضعفت قوتهم وتفرقت كلمتهم تجدد عزمه وذهب يأسه فعاد إلى البلدة فدخلها ، وهكذا الشيطان .
ومما يدل على ذلك قول الله تعالى عن الكفار ] اليوم يئس الذين كفروا من دينكم [ .
والسؤال : هل استمر يأس الكفار من ديننا إلى يومنا هذا ؟
الجواب : بل شمروا عن سواعدهم بعد ذلك وها هم اليوم أشد خطراً من كفار الأمس وأخبث منهم .
ثم يا ترى ماذا يقال عن حروب الردة ، وماذا عن الفكر الماركسي الإلحادي الذي حدث بالأمس في جنوب الجزيرة؟أم أننا سنقول إن كل ذلك ليس بكفر بحجة أنه حدث في جزيرة العرب إستناداً إلى الحديث المذكور .
وتناسى هؤلاء أيضاً الأحاديث المنصوص عليها بحدوث الشرك في جزيرة العرب .
فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعاً : (( لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة )) وذو الخلصة صنم لأهل دوس ، ودوس في أعالي اليمن .
وهكذا تتساقط شبههم واحدة بعد واحدة ، ونحن وإن لم نتعرض لكل الشبه إما لوضوح فسادها أو لإندراجها تحت ما ذكرنا ، فإننا لو استقصيناها لطال بنا المقـام ولكن يكفيـك ما قدمته لك من الأصول التي يرد بها عليهم إجمالاً ، فإنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا إثبات شركهم ، وكيف لهم إثباته وقد جاء الإسلام بحربه . كما أنهم لن يستطيعوا إثبات حرف واحد في ذلك عن صالح سلف هذه الأمة .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : [ ولا يستطيع أحد أن ينقل عن أحد من الصحابة ولا عن السلف أنهم بعد موته طلبوا منه اغاثة ولا نصراً ولا إعانة ولا استسقوا بقبره ولا استنصروا به كما كانوا يفعلون ذلك في حياته ، ولا فعل ذلك أحد من أهل الإيمان ، وإنما يحكى مثل ذلك عن أقوام جهّال أتوا قبره فسألوه بعض الأطعمة واستنصروه على بعض الظلمة ] < راجع مختصر كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري ص 2..-2.1 ت؛عجال > .
قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان : [ إن صنيع القبوريين مفارق لما كان عليه سلف الأمة . وهل يمكن لبشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم ( أي من السلف ) بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها ، فضلاً أن يصلوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها أو يسألوهم حوائجهم . فليوقفونا على أثر واحد أو حـرف واحد في ذلك ] .
< راجع مجلة البيان العدد 132 ص 51 > .
الإجماع على كفر من استغاث بالأموات
وقبل الخاتمة أذكر أقوال العلماء الذين نقلوا الإجماع أو أفتوا بكفر من استغاث بالأموات . فمن هؤلاء :
شيخ الإسلام ابن تيميه : [ قال : ( من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً ). ونقله عنه غير واحد مقرّين له ، منهم : ابن مفلح في الفروع ، وصاحب الإنصاف ، وصاحب الغاية ، وصاحـب الإقناع ، وشارحه ، وغيرهم ] < راجع تيسير العزيز الحميد ص 229 >
وكلام شيخ الإسلام ابن تيميه في نقله الإجمـاع على ذلك في عدة كتب له ، منها : الجواب الباهر ، ورده على البكري ، وغير ذلك .
ومنهم الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في عامة كتبه .
قال الإمام محمد بن علي الشوكاني في رده على القبوريين المستغيثين بالأموات :
[ فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك ، وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على ذلك وحكوا عليه الإجماع ] < راجع الصيانةص 171 > .
وممن أفتى بكفرهم أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي ، والحافظ المقريزي ، وابن النحّاس الشافعي ، وابن القيم ، والحافظ ابن عبد الهادي ، والشيخ صنع الله الحبلي الحنفي .< راجع تيسير العزيز ص 227 > .
وممن حكم بكفرهم الإمام البكري الشافعي ، وابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين ، والألوسي صاحب التفسير ، ومحمد بشير السهسواني ، وعالم مصر محمد رشيد رضا ، والشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، وغير هؤلاء كثير .
الخاتمة
فجدير بالعاقل البصير أن يرجع عن هذا الشرك المبين الذي وقع في أعماقه وتدنس برجسه كثير ممن ينتسب إلى الإسلام في مشارق الأرض أو مغاربها .
فكل طائفة من هؤلاء قد انتدبت لها قبراً خاصاً حتى صار في البلد الواحد عدة قبور تُعبد من دون الله ، إنها لصورة مقلقة ومزعجة ومخيفة أن يبقى الأمر على وضعه .
قال المنفلوطي في كتابه النظرات : [ أي قلب يستطيع أن يستقر بين جنبي صاحبه ساعة واحدة ، فلا يطير جزعاً حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكاً بالله ، وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات . لِمَ ينقم المسلمون التثليث في المسيحيين ؟ لِمَ يحملون في صدورهم تلك الموجدة وذلك الضغن ؟ علام يحاربونهم ؟ وفيما يقاتلونهم وهم لم يبلغوا من الشرك بالله مبلغهم ؟ ولم يغرقوا فيه إغراقهم بدين ، المسيحيون بآلهة ثلاثة ولكنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد وبعده عن العقل ، فيتأولون فيه ويقولون إن الثلاثة في حكم الواحد . أما المسلمون فيدينون بآلاف من الآلهة أكثرها جذوع أشجار وجثث موتى وقطع أشجار من حيث لا يشعرون ] .
وقال قبل ذلك : [ فأي عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع فلا تريقها أمام هذا المنظر المؤثر المحزن ، منظر أولئك المسلمين وهم ركّع سجّد على أعتاب قبر ] .
وقال أيضاً : [ والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهناءتها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد ، وإن طلوع الشمس من مغربها ، وانصباب ماء النهر من منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين يدي الله ويقولون للأول ما يقولون للثاني : أنت المتصرّف في الكائنات ، وأنت سيد الأرض والسموات ] .
فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف .
وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين
تاريخ الاضافة: 28-08-2008 12:50
http://www.ahdal.net/print.php?id=76
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق