إلى من أستدل بقوله تعالى:(لنتخذن عليهم مسجداً)
قال الشيخ عبد العزيز بن فيصل الراجحي في كتابه " مجانبة أهل الثبور المصلين في المشاهد و عند القبور" .
فصل في استدلال بعض عباد القبور على جواز اتخاذ المساجد على القبور بقوله تعالى { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } ونقضه وبيان بطلانه.
قد استدل بعض عباد القبور من مشركي زماننا وغيرهم ، على جواز اتخاذ المساجد على القبور ، بقوله تعالى { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } .
بل ذهب بعض هؤلاء المردة إلى القول باستحباب اتخاذها على القبور.
والجواب من وجوه :
أحدها : أن أولئك القائلين كانوا كفارا ، وليسوا بمؤمنين ، قد لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم على أفعالهم تلك ، وحذر أمته من سلوك مسالكهم المردية فقال صلى الله عليه وسلم :«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وفي رواية «وصالحيهم».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في«رده على البكري»(2/567-568): (فبيوت الأوثان ، وبيوت النيران ، وبيوت الكواكب ، وبيوت المقابر: لم يمدح الله شيئا منها ، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى:{ قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا } .
فهؤلاء الذين اتخذوا على أهل الكهف مسجدا : كانوا من النصارى الذين لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال:«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وفي رواية «والصالحين»).
ومما يدل على ذلك : مخالفته لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من لعنه اليهود والنصارى ، لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد .
وقد حكى ابن جرير في«تفسيره» عن المفسرين في أولئك المتغلبين قولين : أحدهما : أنهم مسلمون . والثاني : أنهم مشركون .
وبما تقدم من بيان لعن النبي صلى الله عليه وسلم لفاعلي ذلك ، وتواتر تحذيره، وعظيم وعيده : لا يصح حملهم إلا على أنهم كانوا مشركين .
الوجه الثاني : إن سلمنا أنهم كانوا مسلمين : فكانوا ضالين منحرفين بفعلهم ذلك ، قد استحقوا لعن النبي صلى الله عليه وسلم بسببه ، وهم من جملة الجهال والعامة .
الوجه الثالث : أن الله عز وجل لم يصف أولئك المتغلبين ، بوصف يمدحون لأجله ، وإنما وصفهم بالغلبة ! وإطلاقها دون قرنها بعدل أو حق : يدل على التسلط والهوى والظلم ، ولا يدل على علم ولا هدى ، ولا صلاح ولا فلاح .
قال الحافظ ابن رجب(795ه) في شرحه على صحيح البخاري(2/397) على حديث «لعن الله اليهود ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»:(وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث ، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف:{ قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا }.
فجعل اتخاذ القبور على المساجد ، من فعل أهل الغلبة على الأمور ، وذلك يشعر بأن مستنده : القهر والغلبة واتباع الهوى ، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل ، المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى)اه.
الوجه الرابع : أن استدلال هؤلاء القبوريين بهذه الآية على هذا الوجه - مع مخالفته للأحاديث المتواترة الناهية عن ذلك - مخالف لإجماع علماء المسلمين ، على تحريم اتخاذ المساجد على القبور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (27/488):(فإن بناء المساجد على القبور، ليس من دين المسلمين .
بل هو منهي عنه بالنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، واتفاق أئمة الدين .
بل لا يجوز اتخاذ القبور مساجد ، سواء كان ذلك ببناء المسجد عليها ، أو بقصد الصلاة عندها . بل أئمة الدين متفقون على النهي عن ذلك) ، وقد قدمنا الكلام عن هذا مفصلا .
الوجه الخامس : أن هذه الآية ليست مخالفة - ولا تصلح أن تكون مخالفة - للأحاديث المتواترة الناهية عن ذلك ، وإنما هي موافقة لها ، مصدقة بها . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ اليهود والنصارى قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، وقال صلى الله عليه وسلم :«إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح ، بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك التصاوير» رواه البخاري في«صحيحه» (427)، (1341)،(3873) ومسلم(528).
والله أخبر كذلك في كتابه بذلك ، فقال سبحانه:{ قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا } . فالآية مصدقة للأحاديث لا مخالفة .
تنبيه
قد أورد الشيخ الألباني - رحمه الله ، وغفر له - هذه الشبهة في كتابه القيم «تحذير الساجد ، من اتخاذ القبور مساجد»(ص65-78) وردها من وجوه عدة فأحسن ، عدا أن وجهيه الأولين في ردها لا يسلمان له ، بل هما مردودان .
* فإنه ذكر الوجه الأول فقال:(إن الصحيح المتقرر في علم الأصول : أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا ، لأدلة كثيرة).
* ثم ذكر الوجه الثاني فقال:(هب أن الصواب قول من قال : «شريعة من قبلنا شريعة لنا»: فذلك مشروط عندهم ، بما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه).
وهذان وجهان باطلان ، فإن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ، ليس من شرع الله قط ، لا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا في الأمم قبلها .
ولو كان ذلك شرعا من شرع الله لمن كان قبلنا : لم يستحقوا لعن النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فعلوه قد أتى به شرعهم الذي بعثت به أنبياؤهم .
لكن لعنه صلى الله عليه وسلم لهم ، وتغليظه عليهم : دليل على كبير ظلمهم ، وعظيم إثمهم ، ومخالفتهم لأنبيائهم ، وعدم مجيئهم به ، صلوات الله وسلامه عليهم .
المصدر: موقع الصوفية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق